ابتنى والده وأعمامه بيتهم الجديد في حي الشريمية عام 1376هـ وكانوا من أوائل من سكن فيه، يجاورهم فيه جيران كرام، منهم الشيخ حمد بن محمد بن سليمان البسام (1333- 1428هـ) رحمه الله تعالى، وكان الجار الملاصق لهم، استمر هذا الجوار سبعًا وعشرين سنة، لم يدرك الفتى منها إلا خمس سنوات من طفولته الأولى، لا يعي فيها عنه إلا أشياء كالأحلام، إلا أن حدثًا قصته عليه والدته لم ينسه، رغم بساطته وعفويته، فقد تسلل يومًا وهو لم يجاوز السنتين على حين غفلة من أمه، وأهله جميعًا، فخرج من البيت لما وجد الباب مجافىً، وانطلق نحو الشارع العام، لا يلوي على أحد، وكأنه يلحق شاردًا، فصادفه الشيخ حمد وهو خارج من بيته، فاستراب من أمر هذا الطفل الذي يمشي وحده، وأيقن أنه قد أضاع أهله أو أضاعوه، فدفعته المروءة والواجب الذي يحث عليه الشرع، فأمسك بيده، ولم يجد أقرب من دكان بجوار بيته، فوقف يسأل صاحبه: أتعرف هذا الصغير يا أبا محمد؟! فأخذ صاحب الدكان من الدهشة والاستغراب ما أخذ، واجتمع في نفسه من الخوف والاطمئنان ما اجتمع! لقد كان صاحب الدكان والد الطفل، فرده الله إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن!
لقد شب الفتى وهو يسمع عن الشيخ حمد، الذي كان جارًا لهم، وكم تمنى أن يستمر هذا الجوار، ليغرف من بحره، وليروى من مجالسته، لقد صار (حمد المحمد) اسما مألوفًا عنده، يُذكَر حين يذكر العلم والتعليم، والنحو والفرائض، وقد كان من أبرز طلاب الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي، وكان هو القارئ الذي يقرأ عليه في دروسه، ومما سمعه الفتى ممن كان يجالسهم أنه ربما قرأ على الشيخ وهو يعتمر العقال، متميزًا في ذلك عن بقية طلبة العلم، وعن أقرانه في الدرس، وفي ذلك ما فيه من أمارات الانفلات من قيد التقليد، والإعراض عن الشكليات، والعناية بالجوهر.
لما فتح التعليم النظامي أبوابه كان الشيخ حمد من أوائل من انتظم في سلكه، فدرَّس في المدرسة العزيزية في عنيزة، ثم المعهد السعودي، ثم الثانوية العامة، وكان أول مواطن سعودي يدرِّس فيها، ثم انتقل إلى المعهد العلمي، وقضى فيه أطول فترات عمره الوظيفي، وكان أحد الأسماء اللامعة فيه، وقد جمع صفات متعددة، هيأت لها ذكرًا حسنًا وصيتًا ذائعًا، جمع بين الشدة والرحمة، والتأديب والتعزيز، والجد والمرح، وكان وافر العلم، جميل الخط، معنيًّا بشيخ الإسلام ابن تيمية، يستظهر فتاويه وآراءه، ويحفل بسيرته وأخباره.
ولما افتتح فرع جامعة الإمام محمد بن سعود في القصيم، رشح الشيخ حمد للتدريس، مع جملة من زملائه في المعهد، على رأسهم شيخنا محمد بن عثيمين، الذي فرغ سنتين قبل افتتاح الفرع لتأليف مقررات دراسية للمعاهد العلمية، والشيخ علي بن محمد الزامل، والشيخ عبد الله بن حمد الجلالي، رحمهم الله جميعًا، ومن بعدهم أستاذنا صالح بن سليمان العبيكي، وبقي الشيخ حمد البسام يدرس في كلية الشريعة بضع سنين، حتى اعتذر عام 1405هـ تقريبًا.
ومضت السنين، حتى إذا احتاج قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة إلى أساتذة يشاركون في تغطية أعباء الجدول الدراسي، وذلك عام 1417هـ، وكان إذ ذاك يرأسه شيخنا ابن عثيمين، خاطب شيخُنا الشيخَ حمدًا، طالبًا إعادة التعاقد معه مرة أخرى، وكان قد بلغ من العمر يومذاك أربعًا وثمانين سنة، فبقي أيامًا يفكر في إجابة هذا الطلب، فقد كان متواصلاً مع العلم، لا ينفك عنه، مطالعة ومدارسة، إلا أنه اعتذر لكبر السن، وتغير الحال.
ومن شواهد تواصله مع العلم، وحرصه عليه، ما شهدته عصر يوم من الأيام، وكان قد جاوز الثمانين يومذاك، إذ رأيته في سيارته مع سائقه واقفًا أمام منزلنا، فأقبلت إليه فرحًا برؤيته، وتشوفًا لاستضافته، فقال: إني أنتظر الشيخ (يعني شيخنا ابن عثيمين، وكان الحي يجمعنا) فقد ضرب لي موعدًا بعد العصر لأتسلم منه نسخة من الإنصاف، وكان قد طبع حديثًا مع الشرح الكبير، على نفقة الملك فهد رحمه الله، وكان يوزع على العلماء وطلبة العلم ولا يباع.
إن التأليف والتدريس لخير ما يبقى للعالم، يُبقي أثره، ويحفظ ذكره، ويضاعف أجره، وكم من عالم طويت صفحته بموته، لما لم يَكتُب، أو لم يُملِل، وكاد الشيخ حمد يعد من هؤلاء لولا منة الله وفضله، فقد شرح متن الرحبية كاملاً، بخط جيد، وعبارة متقنة موجزة، فيما يزيد عن مائتي ورقة، أسأل الله أن ييسر إخراجه، كما تتلمذ عليه بعض طلبة العلم، يستقبلهم في منزله، أو يعقد لهم حلقة في مسجده الذي يؤم فيه، ومن أبرز من تتلمذ عليه واستفاد منه الشيخ محمد بن علي الزامل.
أما ختام أعماله الجليلة، فقد كان تبرعه ببناء جامع كبير في عنيزة، وقد أدرك اختيار موقعه، ورسم مخططاته، والشروع في بنائه، إلا أنه توفي رحمه الله قبل اكتماله، وقد عُرض عليه أن يسمى باسمه فرفض، وأوصى أن يسمى باسم شيخ الإسلام ابن تيمية، فقيل له إن ثمةَ مسجدًا قد حمل اسم شيخ الإسلام، قال إذن يسمى باسم شيخنا عبد الرحمن السعدي، فنفذ له ما أوصى به.
وفي عام 1435هـ شارك صاحبكم في دورة علمية، أقيمت في هذا الجامع، فلما دخل الجامع لأول مرة، عادت به الذكرى إلى عهد الشيخ حمد وأخباره، وإلى موقفه معه الذي روته أمه، وما كاد يجلس على كرسي الدرس، حتى هم بأن يفتتح الدرس بذكر من بنى هذا الجامع، ثناءً واعترافًا، وإجابة لداعي المودة الذي يناديه، وما إن هم بذلك، وكاد يحرك لسانه به، حتى صاح به داعٍ آخر، داعي الانضباط والالتزام بالمنهجية، فحجزه أن يقحم في الدرس ما ليس له به صلة، وينفق الوقت فيما لا يتصل والعلم بسبب.. فغالب هواه، وغلب داعي الانضباط داعيَ المودة!
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم