المفارقة فيما تبدو عليه أبواب الحياة؛ واسعة، الشُمس من أعلى، كأم، تتفقد أمانك الذي أرهبه لباس الليل الأليل، تضرب بأشعتها رؤوس الجواثيم الطوّافة بين الصدور، وتتفقد آخرين بعد غيبتهم ساعات أو بعد غيبتها هي! وتُحصي أولئك الذين لم يعودوا قادرين على المقاومة وارتخت أنفاسهم الأخيرة من على حبل البقاء، وتُرحب بآخرين جُرّوا إلى الحياة ودوت صيحاتهم حتى بلغتها فلم تعد تدري أيبكون نُسخًا تشبههم بعد سنين عجاف غادرت، أم أن صياحهم هجوم بلا لغة يقاوم الانخراط الطبيعي في ركب الزمن الذي سيحصون دقائقه وقت ما.
حين ترفع رأسك لكأنك تشهد بإحساسك الأمنيات كبالونات ملونة، تُطلقها أيد لا تتشابه في صفاتها، لكن رابطة القرابة بينها متين، كأنها جميعًا امتدت من شجرة الرجاء، كل الأيدي موصولة بفروع الشجرة المتجذرة بعدد سكان الحضارات السالفة والقادمة، وكلما ابتعدتَ لآخر أطراف الفروع وأنكرتَ غريزة الأمل، هبط ليلٌ يستفز رجاءك غير المعلن بالعيش ليوم جديد آخر!
أبواب الحياة الواسعة، سماواتها وأرضيها السبع، مجراتها ونجومها، ثقافاتها وعاداتها، علومها وأديانها، محيطاتها وصحاريها، تضيقُ في عينك من أول السماء إلى آخر الشعور بذاتك، ممر طويل منتهٍ بباب آخر؛ باب النفس، حين تلج إليها بكل أشكال التسرُّب؛ غاضبًا، فرحًا، فخورًا، مُحبطًا، مذهولًا، مكتئبًا وتتسرُّب خائفًا ثلثي عُمرك المقسم إلى أيام. فضاء بلا لون، يُشبه الأسود بهوية مفقودة، كأنك ستبصر نورًا في آخر النفق لكن النفق يطول في كل مرةٍ تزور نفسك فيها، تظنه مسلكًا ضيقًا طويلًا يصل موقفًا بشعور بطريقة تبدو كيميائية، وحين تُقرر حلّ المعادلة تنقسم المركبات إلى جزيئات أكثر تعقيدًا وأرحب من موقف وشعور، السماء هناك لها سُحب تعرفها جيدًا وتعرفك، فكم من مُنى برائحة آمالك عانقتهم والتصقت بهم! الشمس هناك تُشرق وتغيب حسب ما تمرّك من ظواهر، لكن حاجبيها المقوسين عطفًا لا يرتفعان أبدًا، وأشعتها الدافئة لا تزداد حرارةً، الشمسُ هناك تُشرق على أمل أن جرحًا مثل سدّ ممتلئ يستعد أن يقتلع سورًا يشفى من تخثره ويجف! الناس هناك أصغر من الناس في الحاضر، ولأيديهم ملامح واضحة أكثر من وجوههم، أيدي ملامحها حنونة تربت على كتفك أن جئت إليها مُحبطًا، وأيد كريمة تُعانقك إن رأتك محزونًا، وأيد بلا ملامح لا تبالي بوجودك وإن كان شريانك امتدادًا لشريانها! تتقاضى المتاجر في فضاء النفس مقابلًا مما تعلمته وظننته مضمونًا، كأنها تكرر تعليمات استخدام منتجاتها؛ أنها بلا ضمانات! فتأخذ من هدأة بالك بالقلق ومن طُمأنينة وجدانك بالجزع ومن ثبات مبادئك بالجُبن ومن حدودك الغليظة بالتجاوز.
هناك لا يرتفع رأسك ليبصر السماء، ولكنه ينخفض لترى نفسك فقط، لتُخلي سبيل أسئلة لا تجد لها جوابًا، لتبحث بين المراحل عما أضعته فيك وأفقدك أمنك.
** **
- هيا الزومان