لا شيء يضيع مع النسيان، فمما ننساه يظل موجوداً في مكان ما من الجسد، ثم يعود إلى الظهور في الكتابة، لا كما كان ولا إلى ما كان، بل «ككلام لكل ما تم فقدانه» يعود من المكان الأبعد، المجهول.
- محمد بنّيس.
غالبا ما يصعب على البعض نسيانهم ما قد قرؤوه، صعوبة يشوبها شيء من الحنين والألم على فقدان ما اكتسبوه من العلم في هاتيك القراءات؛ ولأجل ذلك قيل» آفة العلم النسيان».
النسيان؛ هو جزء تكويني في كلية الإنسان، فلا مناص منه والحالة هذه، وفي صدد الحديث عن القراءة فلا يوجد برنامج أو ما أشبه ذلك يمكن للإنسان اتباعه لكيلا ينسى ما قرأ؛ لأنه أمر وارد لا محالة.
لكن الفكرة التي تخللت إلى فلسفتي، أو فلسفتي تخللت إليها، هي أن القراءة لا تضيع مع النسيان، بل تكتنز، وبعد فترة يعاد تدويرها فكريا في العقل، أو إبداعيا، أيا ما كانت تلك القراءة، فتخرج بحلة جديدة بعد إعادة تدويرها من القراءات المكتسبة السابقة.
فلا أؤمن بفكرة النسيان المطلق للقراءة، وهذه الفلسفة تولد فلسفة أخرى، وهي إذا كان الأمر على هذه الحال من إعادة التدوير الفكري من المكتسبات السابقة؛ فهذا يعني أن فكر البشرية أجمع شبكة متكاملة من بعضها، متوالدة من ذاتها، ومن الصعوبة بمكان القول بانفرادية الفكر الإنساني، فما فكر الإنسان إلا أجزاء تكونت من مكتسبات هذه المكتسبات تكونت من مكتسبات، وكلها إن لم تكن بالقراءة فهي بالحديث أو بأية أوعية معرفية أخرى تعطي مفعول القراءة، وتردنا لبادئ الأمر ذاته: تكاملية الفكر البشري من بعضه البعض.
ولذلك نجد أحيانا على الصعيدين الفكري والإبداعي تشابهاً في الأفكار بين إنسانين لم يقرأ أحدهما للآخر، ولا هو بالذي يعرف لغته، لكنها اكتسابات من شبكة واحدة.
فالقراءة تكتنز في العقل وفي الحين الذي يعتقد به الإنسان أنه نسيها يقوم العقل بإعادة تدويرها فكريا، فتخرج من الإنسان بفكرة جديدة معاد تدويرها مع قراءات منسية أخرى، ومكتسبات معرفية، أو إبداعية، حتى خرجت هذه الفكرة الجديدة من مزيج أفكار مكتسبة قديماً.
وهذه الفكرة ليس بالضرورة أن يجسدها الإنسان في كتاب، أو قصيدة، أو لوحة مرسومة، أو موسيقى، ليس بالضرورة أن ينقلها للغة أبجدية كانت أم غير أبجدية، لكن بالضرورة ما دامت اكتنزت به أنه حينما يعاد تدويرها فالنتائج تبدو جلية على شخصيته، وفكره، وتعاطيه مع الحياة.
فلا شيء يضيع مع النسيان، فمما ننساه يظل موجوداً في مكان ما من الجسد ثم يعود إلى الظهور، لا كما كان ولا إلى ما كان، بل كشيء لكل ما تم فقدانه، يعود من المكان الأبعد، المجهول.
** **
- سراب الصبيح
sarabalwibari@gmail.com