الجزيرة الثقافية - محمد هليل الرويلي:
أوضح الناقد الدكتور سعد البازعي أن أشياء كثيرة في تفكيره تغيرت بعد معرفته بالمفكر والباحث الدكتور عبدالوهاب المسيري وأثرت في نشاطه في الكتابة والتأليف، رغم مرور اثني عشر عاماً مضى على رحيل المسيري، وأضاف: أقول هذا لأؤكد ما قلته مراراً وبتفصيل أكثر في مقالتين نشرتهما ضمن كتابي «قلق المعرفة». وما أود تأكيده مرة أخرى هو أن الاحتفاء بمفكر بحجم المسيري ليس بالتعبير عن المشاعر تجاهه أو بالثناء عليه وإن كان كلاهما مستحقاً علي وعلى من عرفه عن قرب سواء كان صديقاً أو زميلاً أو تلميذاً. الاحتفاء هو بقراءة أعماله والتحاور معها قبولاً واختلافاً شأنها في ذلك شأن أعمال أي مفكر آخر.
وفي اتصال لـ«الثقافية» مع الناقد الدكتور البازعي، للاستيضاح حول مقطع تم إعادة تداوله مؤخرًا - وصف بالنادر - في بعض الشبكات الرقمية، يظهر فيه الدكتور المسيري وهو يتحدث حول (النظرية التفكيكية) وجوهر الفكر اللغوي والفلسفي التي تطرحها النظرية في العالم الغربي، وإشارته لقراءات البازعي وأهمية أن يكتب في هذا الجانب قال البازعي: لقد لفت الكثيرين ما ذكره الراحل رحمه الله حول علاقتي به في بعض ما ألف وبعض ما قال في المحاضرات، لفتهم ربما لأنهم لم يعلموا عن الصلة التي نشأت بيننا أو لأنهم رأوها مبادرة كريمة من مفكر عربي كبير في وقت تقل فيه مبادرات من ذلك النوع، مبادرات تأتي عفوية وصادقة. والحق أن المسيري كان وفياً دائماً لمن تعرف عليهم، تؤكد ذلك إشارته إلى زملاء وأصدقاء آخرين عرفهم هنا في المملكة في سنوات عمله فيها منهم أستاذي الدكتور عزت خطاب الذي يذكره كل من عرفه بالخير أيضاً.
كثيراً ما عبّر المسيري رحمه الله عن مدينيته للمملكة وللجامعة التي عمل فيها، أي جامعة الملك سعود، وللزملاء والأصدقاء الذين عرفهم وعمل معهم، وأظن أن كل من عمل معه مدين له، ومن المؤكد أنني من أكثر أولئك مدينية وأرجو أن أكون من أكثرهم عرفاناً لها. أتذكر هذا بصفة خاصة حين يطرح للنقاش أحد المفاهيم المركزية في فكر المسيري وهو التحيز في المنهج. ذلك المفهوم الذي يحتل لدي أيضاً مكانة مركزية أدين للمسيري بتشجيعي على تطويرها والمضي بها إلى أمداء ما أظنني كنت لأصل إليها دون دعمه وتشجيعه. أذكر أنني عدت من سنة تفرغ أواخر الثمانينيات ومعي بحث مطول نسبياً حول التحيز في مناهج النقد الغربي وأريته إياه مكتوباً بخط اليد (لم أكن عندئذٍ أجيد الكتابة على الآلة) فلم يلبث أن عبر عن إعجاب شديد ملأني بهجة لأتبين من ثم أن الفكرة الأساسية، أي التحيز، محل اهتمام بحثي لدى عبد الوهاب أيضاً. وحين دعاني إلى مؤتمر حول التحيز في العلوم الإنسانية في القاهرة بعد ذلك بسنة أو سنتين دعا إليها العديد من الباحثين في عدة حقول بحثية ومعرفية شعرت بالمزيد من الثقة أنني أضع قدمي على مسار يستدعي التقصي، وهو ما حدث لدي لكن ليس بالحجم الذي تطور لدى المسيري نفسه، أقول ليس بالحجم وربما أيضاً ليس بالاتجاه ذاته الذي يجده قارئ المسيري في بعض أعماله.
ووضح الدكتور سعد البازعي مفنداً رؤيته في جانب - تفسير ظواهر الحضارة الغربية – وطرح وتناول المسيري: بدا لي أحياناً أن المسيري يذهب أبعد مما يمكنني الذهاب إليه في تفسير ظواهر الحضارة الغربية، فأنا أكثر تشككاً في التفسيرات والنظريات الشمولية للظواهر، أي تلك التي تضع كل شيء في موضع واضح وصارم فلا ترى فرصة للتداخل أو الغموض. بدا لي أن قراءة المسيري للتحيز وللعلمانية تبتعد كثيراً في ذلك الاتجاه اليقيني الواضح، وما زلت في قراءاتي لا أذهب كل ذلك المذهب وأراه مغالياً في انتظامه وصرامته.
الجانب الآخر الذي وجدتني أبحث فيه مستلهماً مشروع المسيري الكبير حول اليهود والصهيونية تبلور فيما بعد في كتاب «المكون اليهودي في الحضارة الغربية» (2007). أقول «استلهمت» مشروع المسيري لأن مما اتضح لي أنني كنت أطور أطروحة تختلف مع أطروحته الأساسية حول دور المفكرين والكتاب اليهود في التشكيل الحضاري الغربي. كان رأي المسيري أن يهودية أولئك المفكرين (سبينوزا، ماركس، فرويد، الخ) لم تلعب دوراً يذكر في تشكيل فكرهم، ورأيت العكس، والطريف أنني رأيت العكس متكئاً أيضاً على مفهوم مركزي من المفاهيم التي طورها المسيري نفسه فيما يتصل بالأقليات حين تحدث عن «الجماعات الوظيفية» واليهود من أبرز تلك الجماعات. أطروحة المسيري هي أن في المجتمعات جماعات تقوم بأدوار وظيفية يرفض التيار الرئيس أو الأكثرية في المجتمع القيام بها، وهي وظائف اقتصادية واجتماعية متنوعة، ويصدق ذلك على اليهود في تاريخهم، مثلما يصدق على جماعات أخرى هي في الواقع أقليات. بدا لي أن المفكرين والكتاب اليهود انطلقوا من شعورهم وموقعهم الأقلوي في نسج إسهاماتهم الفكرية والإبداعية، أو أنهم لم يستطيعوا التخلص من موقعهم بوصفهم أقلية في مجتمعات اضطهدتهم أو أوكلت إليهم أداء وظائف محددة قيدتهم أو أهانتهم . ذلك الشعور وذلك الموقع كانا حاسمين في تشكيل المشاريع أو الأعمال الكبرى التي أنتجوا، وبالطبع أوردت الشواهد الكثيرة على ذلك.
وتابع البازعي: ما زلت أذكر الحوارات الغنية التي دارت حول هذه المواضيع وغيرها مع الدكتور المسيري رحمه الله في الرياض وفي القاهرة كلما التقيته في شقته هناك أثناء رحلاتي إلى مصر أو حين تتاح له فرصة المجيء إلى المملكة. وكنت في كل مرة أعجب مثلما أعجب غيري بقدراته على الحجاج ورحابة صدره في الوقت نفسه في تقبل الاختلاف. كان المسيري باختصار ودون مبالغة أكثر من عرفت قدرة على الأخذ بتلابيب محدثيه أو مستمعيه وترك أثراً عميقاً لديهم. قد يختلفون معه أو لا يقتنعون بما يقول فيما بعد لكنهم أثناء الاستماع لا يملكون إلا أن يسلموا بطاقة هائلة على الحديث العميق والممتع في الوقت نفسه. كان وجوده في الجامعة ظاهرة بحد ذاتها، بل إن أثره امتد إلى خارج الجامعة حين حاضر في النادي الأدبي بالرياض حول موضوع جلب عنوانه الانتباه حين ربط الصهيونية بالرومانسية على نحو فاجأ الكثيرين، ولكن المستوى المعرفي الذي أجرى المسيري حوله الربط كان من اللا مفكر فيه لدى معظم إن لم يكن كل مثقفي المنطقة. ذلك التفاعل وما حرص على تقديمه بين الحين والآخر من محاضرات سواء في النادي الأدبي أو في مركز الملك فيصل كان حالة من التفاعل الخلاق مع بلاد ومجتمع شعر الراحل بانسجام كبير معهما، كما عبر عن ذلك في غير موضع من مؤلفاته.
رحمه الله وجزاه عني وعن كل من أفاد منه خيراً.