أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: بسم الله الرحمن الرحيم، وعلى الله توكلنا هو سبحانه وتعالى مولانا، ونعم المولى، ونعم المحيط.. أما بعد: فإن من ظواهر الرسائل الشخصية: وجدت الجريدة والمجلة؛ وأهم عنصر في مادتهما الإثارة، وأحلى وجه للإثارة، وأكثره جاذبية: الحوار الصحفي في ردود الكتاب بعضهم على بعض، وتعليقاتهم، وتراشقهم؛ وما أحر بعض التراشق بعض المرات؛ ذلك أن بعض العلماء، والأدباء، والمثقفين، والجوف في حماس يطرب له الجمهور كما يطرب جمهور الإسبانيين من مصارعة الثيران.. والجريدة والمجلة كانتا شديدتي التلبية لمطالب الأسلاف؛ فمن مطالب الأسلاف كتابة المقالة والخاطرة منذ تجيش بها مواهبهم؛ ولكنهم لا ينعمون بإشاعتها للجمهور في يومها؛ وإنما يجمعون المقالة إلى المقالة، والخاطرة إلى الخاطرة، كي تكون كتاباً يصنف في حقل الأدب في عرف الأسلاف.. أو في حقل المقالة، أو في حقل المعارف العامة في عرف (ديوي).
قال أبو عبدالرحمن: إن بعض كتب (أبي حيان التوحيدي) مقالات وخواطر؛ وكان (أبو الوفاء علي ابن عقيل) ينهض من فراشه ليسجل خاطرة قبل أن تمحى من ذاكرته، أو قبل أن تبرد حرارتها في العاطفة؛ ولقد سجل في هذا الغرض كتاب (الفنون) للإمام ابن حزم رحمه الله تعالى؛ ولقد قيل: إن كتاب (الفنون) أربعمئة جزء طبع منه مجلدان.. وبعضهم يلحق الخاطرة أو المقالة بآخر مؤلفاته، ويعنون لها بقوله: (فصل في كذا)، وقد رأيت لابن حزم وابن تيمية رحمهما الله تعالى، ورحم أبا الوفاء ابن عقيل، وعفا الله عن التوحيدي، ملحقات من هذا النوع؛ ومن ذلك فصل كتبه ابن حزم عن مناجاة النفس، وهذا الفصل مقالة إلا أنها تجنيح فلسفي، وقطعة فنية.. وبحث المجلة وما في حكمه عبر عنه الأسلاف بالمؤلفات الصغيرة؛ وهو المباحث القصيرة التي يدرجونها في كتاب.. وردود العلماء والأدباء والمثقفين ركن أصيل في تراث الأسلاف إلا أنه يطول الفاصل الزمني بين الرد والمردود عليه، وبين رد الرد، ورد رد الرد.. إلخ.. ولكنها تخرج بعد ذلك فتطير في الآفاق، ويغذيها تلاميذ الفريقين.. ومن قرأ مقدمة (الحيوان) للجاحظ رآها من شواهق الرد الصحفي!!.. وهناك ردود تقصر لحظتها الزمنية ويعايشها الجمهور كما يعايشون الردود الصحفية كرسالة الإمام ابن حزم (الرد على الهاتف من بعد)؛ فهي مقالة صحفية ماتعة ماتعة.. ومن ذلك رسائل العلماء فيما بينهم حقيقية، أو متخيلة كرسائل الجاحظ، ومن ذلك المناظرات المدونة كمناظرات الرازي، وكمناظرات ابن حزم للباجي، وأبي عبدة، وابن حرفش، ومكي وكلها في كتابيه (الفصل)، و(إحكام الأحكام).. وقد حفظ لنا ياقوت الحموي رحمه الله تعالى في كتابه (معجم الأدباء) مراسلات بين أبي العلاء المعري، والوزير أبي عمران حول الرأفة بالحيوان، وتحرج المعري من ذبحه، وأكله وأكل الجبن، وشرب الألبان، واصطياد الطير.. وكلمته مشهورة مدوية: (استضعفوك فوصفوك.. هلا وصفوا شبل الأسد).. وهذه المراسلات من شواهق المناظرات الصحفية.. ومثل ذلك مناظرة عبدالوهاب ابن حزم لخاله أبي محمد ابن حزم التي حفظ لنا ابن بسام نتفاً منها في كتابه (الذخيرة).
قال أبو عبدالرحمن: لما وجدت الصحيفة والجريدة عند الأسلاف: كانت بمعنى ما تعنيه (مجلة لقمان الحكيم) عليه سلام الله وبركاته، ولقد حاضرت عنها بإسهاب؛ فلما وجدت المجلة في بلاد العرب والمسلمين سخفت فيها رسائل الأدباء سخفاً لا حد له، واقتصرت على السؤال عن الصحة والأهل والولد، والإخبار ببعض وقائع اليوم العادية، والتكليف ببعض المطالب الدنيوية.. وجاء الهاتف فكاد يلغي أكثر الرسائل بينما نجد عند الأسلاف رسالة الإمام ابن حزم إلى صديقه وتلميذه ابن الحوات من الرسائل الإخوانية، ولكنها مسائل من العلم نفيسة، ومثل ذلك رسالته إلى بعض تلاميذه المعروفة بالتلخيص والتخليص؛ والسر في سخافة رسائل المعاصرين الشخصية: أن الواحد من المعاصرين يبخل على نفسه وعلى صديقه أو خصمه أن يحرر له رسالة علمية لا يقرؤها غير الكاتب والمكتوب له؛ لأنه يريد الرسالة المحررة لجريدة سيارة يلتذ بشيوعها وقراءة الجماهير لها.. ولم تسر هذه العدوى إلى كتاب الخواجات؛ بل كانت رسائل أدبائهم وعلمائهم بنفس المستوى الذي يكتبون به مقالاتهم وردودهم في الكتب، وفي الجريدة، وفي المجلة: أذكر نموذجاً واحداً من نماذج الخواجات الكثيرة؛ وهو رسالة (هنري آدمز)؛ فقد ألف كتابه (رسالة إلى معلمي التاريخ الأمريكيين).. ألفه عن قانون الانحلال الكوني.. وفي فبراير سنة 1910 ميلادياً أرسل منه نسخة إلى صديقه وزميله بجامعة (هارفارد) الفيلسوف (وليام جيمس)؛ فاستمرت الرسائل بين العلمين سنين كثيرة، وكل واحد منهما في طريق فلسفي مباين للآخر.. وهناك مجلد ضخم يحوي رسائل (هنري آدمز)؛ ولم تكن من رسائل الحياة اليومية العادية؛ ولكنها رسائل في حرية الإرادة، وتطور الكون، وتقدم التاريخ.. إلخ.
قال أبو عبدالرحمن: لم تكن رسائل العلمين ودية دائما؛ ففي رسالة (وليام جيمس) إلى (هنري آدمز) هذا النص: «إن الدم وحده هو الذي يغسل هذه الإهانة، ولكنك شيخ عجوز».. ومن أراد طرفاً ممتعاً من رسائل العلمين فليراجع كتاب (فلسفة التقدم) تأليف (دافيد. ر. مارسيل) ترجمة الدكتور خالد المنصوري.. وكانت هذه الرسائل لقيمتها العلمية والتاريخية أعظم المعالم في كتابات الخواجات عن أعلامهم وأفكار أعلامهم؛ وعلى سبيل المثال أيضاً أذكر (فرانز كافكا) كانت رسائله شبيهة برسائل (آدمز)، و(جيمس) من ناحية القيمة العلمية والتاريخية.. وأستثني رسائل مضللة بصيغة اسم الفاعل كتبها (كافكا) ولا حقيقة لها في الواقع، وإنما تستر بها على هدم الأديان لصهيونيته مثل (رسالة إلى الأب)؛ فلم يكتب لأبيه شيئاً، ولم يقع بيد أبيه شيء، وإنما عنى قبحه الله بالأب الرب جل جلاله.
قال أبوعبدالرحمن: وقد حاولت أن أرد للرسائل الشخصية كرامتها في جدية الأسلاف، أو عمق الخواجات؛ لكنني لم أجد من القوم عزيمة؛ فعدت إلى الطرح الصحفي؛ فمن ذلك أن أحد زملاء مشايخي كتب إلي يهجو ظاهريتي ويدعوني للحنبلية، ويتهم شيخي الإمام أبا محمد ابن حزم؛ إذ أنا تلميذ كتبه رحمه الله تعالى بأخذه كتاب ابن الكلبي في الأنساب وحسب؛ فكتبت له قطعة علمية لأركسه؛ ولأبين له إضافات ابن حزم عن الأسر في الأندلس، وليس هذا عند غيره مع إصلاحه لبعض الأخطاء عند ابن الكلبي، وترجيحه نصاً على نص؛ فقطع ما بدأه.. وآخر في مقام زملائي كتب لي عن رأيي في محاضرة له سمعتها؛ فأسهبت له بفكر فلسفي وفكر أدبي؛ فقطع ما بدأه أيضاً.
قال أبوعبدالرحمن: ولن أتوقع لبني قومي سموقاً علمياً وفكرياً وثقافياً ما لم يعيدوا للرسائل الشخصية كرامتها وعمقها؛ لتواكب المختار للكتاب والمجلة والجريدة، ولتكون معلماً للسيرة الشخصية (النفسية)؛ ذلك أن الرسائل الشخصية العلمية الجادة أبعد عن النفاق العلمي، وأقرب للتقوى والترفع عن المغالطة؛ وهي تعود بالمجد العلمي على الطرفين المتراسلين؛ من أجل أن يعين كل واحد صديقه أو خصمه في رسم منهجه، وإيضاح دعواه، وإظهار حجته، ولفت نظره إلى القوادح والمعارضات والإيرادات؛ فتكون الرسائل لقاح العقول؛ فإذا انتقلت هذه الرسائل ولو بعد سنين إلى تناول الجمهور عادت بالمجد العلمي على الأمة بأخرة.
قال أبو عبدالرحمن: وفي هذه الجولة الأدبية المليحة كفاية؛ فإلى لقاء عاجل إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
كتبه لكم:
(محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل)
- عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -