د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** يكرر الدكتور محمد شحرور 1938- 2019م في محاضراته حكاية تحوُّله من تخصصه الهندسي إلى الدراسات الإسلامية، واتجاهه نحو تفسير القرآن الكريم برؤيةٍ عقليةٍ مذ أصدر مؤلّفَه: (الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة) عام 1990م، ويعزوه إلى آثار هزيمة عام 1967م؛ فقد شهد كما حكى أولَ خطبةِ جمعةٍ بعد «النكبة الحَزِيرانية المشهودة»، وسمع الخطيب ينسب الهزيمة إلى «النساء الكاسيات العاريات»، ثم التقى بعد ذلك بصديقٍ من الضفة الأخرى فقال: إن سبب الهزيمة صيامُ رمضان، وانتقد الاثنين بلغةٍ حادةٍ، وكانا سببَ بحثه عن مسالك الخروج.
** لم يستكمل أدواتِه البحثيةَ كي يستطيعَ الإبحار في النص المقدّس دون الغرق في قراءاتٍ انطباعيةٍ بنى معظمَها على نظريته في أن من أبرز أدواء الأمة احتفاءَها «بالمترادفات» التي تُسخر الألفاظ المتشابهة لمعنىً واحد؛ فالذكرُ - مثلًا - غيرُ الكتاب، والكتابُ غير القرآن، وهكذا. والمتأمل في كتاباته ومحاضراته لا يعدم أن يجدَ تميزَ تفكير دون أن يصحبه إقناعُ مفكر. والظنُّ أن مثل هذه النظريات لا تستقيمُ طويلًا لانفصالها عن المرجعية العلمية، والتصاقها بالحفاوة التصنيفية. ويبقى للدكتور شحرور إيمانُه بمصدرية القرآن الإلهية العلوية فاجتهد بمقدار ما أفتاه عقله.
** الاتكاءُ على العقل لا يعدو أن يكون سعيًا لتتويجِه كي يصبح سلطانًا آخرَ يشبه سلطوية القبيلة التي تؤجر فكرها لما يراه أسيادُها. وقد تنحرف المساراتُ الذهنية بمقدار ما يُسلم العقلُ خلاياه لتوجهٍ أو توجيه. ونعجب ممن يتخطى التأريخَ كلَّه؛ ليزعم سبقًا لم يبلغه سواه، وبخاصةٍ في موضوعاتٍ تخصصيةٍ نظرية؛ إذ المعرفة بناءٌ تراكميٌ؛ لا ينفرد به جيلٌ أو فردٌ أو مرحلة.
** وفي رؤية مختلفة أسس الدكتور محمد عابد الجابري 1935- 2010م مشروعه البنيويَّ المتصل بالعقل العربي على ركائز: البيان، وهو لغوي، والعرفان، وهو عَقَدي، والبرهان، وهو علمي، مثلما أوضح ركائزه المجتمعية: الغنيمة والقبيلة والعقيدة، بصفتها مدارًا للعقل الجمعي. وقد تعرضت رؤاه لنقاش منهجي. وهو أمرٌ اختص به قلة، سعوا للنأي عن مخاطبة العامة، بخلاف ما فعله شحرور الذي تنقل بنظريته ثلاثين عامًا في اتجاهٍ جماهيري أُحادي.
** ستظل مشكلة العقل مؤرقةً في الزمن الرقمي «الرخو» حيث لا ميدان للحوارات الجادة الهادئة. ولو استطعنا استعادة أجواء الجدل العلمي النخبوي فإننا سنظفر بناتج ثري. وقد أقسم محاضرٌ في بث مرئي قريب أن لو بقي المعتزلة في مواقعهم لما بقي علمانيٌ أو ليبرالي؛ إذ سيُلغونهم بالنقاش العقلي. وعنى أن المدرسة السلفية لا تمنح العقل مداه. وكذا خرج الشيخ عبدالله القصيمي 1907- 1996م من دائرة النقل التي قلَّدها إلى مدرسة العقل التي جدّدها وفق فهمه.
** يتجاور العقل والنقل فينتجان حجاجًا ثريًّا من غير أن يَغنى جانبٌ فيطغى، أو ينكسرَ آخرُ فينأى. وفي التوازن دروبٌ، لا تلتفت، ولا تفتئت.
** الحِجاج يُقصي اللِّجاج.