اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
كم هو خليق بالإنسان السوي أن يروض مشاعره ويوطن عواطفه كما ينبغي على الوجه الذي ينبغي متخذاً من قوته الغضبية ودوافعه النفسية سلماً يصعد عليه إلى الفضائل، وحاجزاً يمنعه عن الانحدار إلى الرذائل من خلال الاعتدال في جميع أموره بما في ذلك الحب والبغض، بعيداً عن الإفراط الذي يقود إلى الهلاك، كما فعلت النصارى عندما أفرطت في حب عيسى بن مريم حتى قالت عنه إنه ابن الله تعالى الله عما قالوا، في حين أبغضته اليهود فبهتوا أمه، وأفرطت الرافضة في حب علي -كرم الله وجهه- حتى ألّهوه، وأبغضته المارقة من الخوارج حتى كفروه، وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: دعاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «إن فيك مثلاً من عيسى أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به»، ألا وأنه يهلك في اثنان محب مفرط يفرطني بما ليس فيّ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني.
ومن الوسطية المطلوبة وحسن المعاملة التحلي بالاعتدال في العلاقة مع الآخرين والتعامل معهم بإنصاف في حالتي الرضا والغضب دون إفراط في الحب أو إسراف في البغض وعدم المغالاة في أي منهما مع إخضاعهما لميزان العقل على النحو الذي ينمي المودة ويحد من أسباب العداوة بعيداً على السلوك غير المنضبط الذي يفضي إلى ممارسات خاطئة تتحكم فيها العاطفة ويقودها إليها الهوى.
والعاقل ينظر إلى المودة والعداوة من زاوية واقعية يستطيع من خلالها قياس الحب والبغض بمقاييس منصفة ذات مبررات صحيحة، مدركاً أنه من غير المحبذ المغالاة في المودة أو الذهاب بعيداً في العداوة خوفاً من أن تتحول صداقة الصديق إلى عداوة في يوم من الأيام أو العكس مع الاسترشاد بما أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: «أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيض هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما» وما يعنيه ذلك من التحسب للعواقب والاحتفاظ بخط الرجعة عن طريق الاقتصاد في الحب والبغض، تفادياً لليوم الذي يجد الانسان نفسه مضطراً إلى التحول من حال إلى حال، وقد قيل لأحد الحكماء: ما هو الاحتياط؟ قال: الاقتصاد في الحب والبغض، وقيل لآخر: ما هو الخرق؟ قال: حب مغرق وبغض مفرط.
والقلب سمي بهذا الاسم لتقلبه وتغيره واللبيب يترك للنزوع والرجوع بقية من قلبه في حبه وبغضه، فلا يكون في الإخاء مكثراً، ثم يكون فيه مدبراً، فيعرف سرفه في الإقبال من جفائه في الإدبار، وإن أبغض فلا يتجاوز الحدود في بغضه، بل يترك جسور التواصل سالكه مع مبغوضه حتى لا يذل نفسه في يوم من الأيام بسبب القطيعة والإسراف في البغض عندما تضطره الظروف إلى العودة إليه، وقد قال عمر بن الخطاب: لا يكن حبك كلفاً، ولا بغضك تلفاً، وقال أحد الحكماء: إذا أحببت ففكر في البغض لعله يكون، وإذا أبغضت ففكر في الحب لعله يكون، وقال الشاعر:
فهونك في حب وبغض فربما
يُرى جانب من صاحب بعد جانب
ومن أحقر الصفات وأقبح العادات هجر الصاحب وتقريب المتباعد، والإنسان لا يخلو طبعه من شيء من هذا التصرف الممقوت، وقد قال أحد الحكماء ينصح أحدهم: إذا أقبل عليك مقبل بمودة، فسرك ألا يدبر عنك فلا تُنعم في الإقبال عليه والتفتح له، فإن الإنسان طبع على ضرائب لؤم فمن شأنه أن يرحل عمّن اقترب منه ويقترب ممن رحل عنه، وقد قال أكثم بن صيفي: الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، وإفراط الأنس مدعاة للملال، والاعتدال في ذلك أقرب إلى السلامة والحسنة بين السيئتين وخير الأمور أوساطها، وقال الشافعي: الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن وسطاً بين القبض والبسط.
وقد انسجمت توجيهات القادة الفاتحين ونصائح الناصحين مع ما يدعو إليه الأنبياء والمرسلين من الرفق واللين والاقتصاد في الحب والبغض من أجل المحافظة على علاقة المودة مع الأصدقاء وتطويرها، وفي الوقت نفسه الإبقاء على شعرة معاوية مع الأعداء وعدم قطعها فالإسكندر عندما أراد سفراً قال لأحد الحكماء أرشدني لأحزم أمري فقال له الحكيم: لا تملأن قلبك من محبة الشيء، ولا يستولين عليك بغضه واجعلهما قصيداً، لأن القلب كاسمه ينزع ويرجع، ومعاوية قال لزياد حين ولاه العراق: يا زياد ليكن حبك وبغضك قصداً، فإن العثرة فيهما كامنة واجعل للنزوع والرجوع بقية من قلبك، واحذر صولة الانهماك، فإنها تؤدي إلى الهلاك، وقيل لأحد الملوك وقد بلغ في القدر ما لم يبلغه أحد من ملوك عصره: ما الذي بلغ بك هذه المنزلة؟ قال: عفوي عند قدرتي، وليني عند شدتّي، وبذلي الإنصاف ولو من نفسي، وإبقائي في الحب والبغض مكاناً لموضع الاستبدال.
وانطلاقاً من مبدأ الاعتدال فإن العتاب يلجأ إليه المتحابون عند الحاجة لتأكيد الوفاء وإزالة الجفاء، مع الأخذ في الحسبان أن الاكثار منه يؤدي إلى النفور والملال، وتركه يدل على الإهمال، فلا إكثار ممل، ولا إهمال مخل وقد قيل: عتاب الأخ خيرٌ من فقده، وظاهر العتاب خيرٌ من باطن الحقد، وقد قال الشاعر:
أقلل عتابك فالبقاء قليل
والدهر يعدل تارة ويميل
والتزاور ينمي المودة ويبعث فيها الروح بشكل مستمر، ولكن الإفراط فيه وكثرة غشيان الأصحاب والإدمان على الزيارة قد يضجر المزور وينغص السرور ويجلب السأم والملل في حين أن انقطاع التزاور يؤدي إلى الجفاء وانعدام الصفاء والإخلال بالوفاء، مما يستدعى الاعتدال في كل ذلك، وقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «زر غباً تزدد حباً: وقال أحد الحكماء: من كثرة زيارته قلت بشاشته، وقال آخر: من أدمن زيارة الأصدقاء فقد الاحتفاء عند اللقاء، والمثل يقول: الهوى من النوى، يعني أن البعد يورث الحب ومنه يتولد، لأن الإنسان إذا كان يُرى كل يوم يُستحقر ويُمل، وقد قيل: اغترب تتجدد، وقد قال الشاعر:
عليك بإقلال الزيارة إنها
تكون إذا زادت إلى الهجر مسلكا
فإني رأيت القطر يسأُم دائباً
ويُسأل بالأيدي إذا هو أمسكا