عزيز عبدالقادر
بعيدًا عن صخب الأحداث السياسية والجلبة التي أحدثها أنصار ترامب بعد اقتحام مبنى الكابيتول، تترقب أسواق الطاقة بقدر كبير من الاهتمام تولي الرئيس المنتخب جو بايدن مقاليد السلطة في الولايات المتحدة في 20 يناير الجاري. وبدت ملامح التأثيرات المحتملة لفوز المرشح الديموقراطي واضحة للعيان منذ المناظرة الرئاسية التي أجراها أمام الرئيس المنتهية ولايته، حيث ركز ترامب على مهاجمة سياسات «الطاقة النظيفة» التي ينادي بها بايدن وفريقه من أنصار حماية البيئة.
وكما هو الحال مع أي إدارة جديدة تتولى زمام الأمور في الاقتصاد الأكبر والأكثر استهلاكاً للطاقة على مستوى العالم، هناك عوامل متناقضة تسهم في تحديد المسارات المتوقعة لصناعة النفط وباقي قطاعات الطاقة الأخرى، هذا إذا تحدثنا من منظور الأسواق العالمية التي تتابع أسعار النفط على مدار الساعة، وتنهمك كل لحظة في توقع اتجاهاتها المستقبلية. وتتمحور هذه المتغيرات حول السياسة الخارجية لإدارة بايدن، وتحديدًا العلاقات مع الدول «المارقة» مثل إيران وفنزويلا، بالإضافة إلى موقف الرئيس الجديد من أنشطة التنقيب الملوثة للبيئة، مثل التكسير الهيدروليكي، فضلًا عن موقفه المبدئي تجاه الصناعات المرتبطة بالوقود الأحفوري بشكل عام.
خارج النص، أسعار النفط قد تشهد قفزة في بداية ولاية بايدن
ربما تغيب عن النقاشات الدائرة في الوقت الحالي أن التحدي الرئيس الذي واجهته أسواق الطاقة خلال العام الماضي جاء بصفة رئيسة من تطورات الوضع الصحي في ظل جائحة كورونا. وأدى انتشار «الفيروس الصيني» كما يحلو للرئيس ترامب وصفه إلى توجيه ضربة قاصمة لأسعار النفط، حيث هوى خام برنت القياسي إلى أدنى مستوياته في أكثر من 20 عاماً. وبلغت الأمور ذروتها مع انزلاق العقود الآجلة لخام غرب تكساس إلى مستويات سلبية للمرة الأولى في التاريخ، بعد أن أدى امتلاء مخزونات النفط في البر والبحر إلى دفع المستثمرين لبيع ما بحوزتهم، بل ودفع علاوة وصلت إلى 40 دولاراً لكل برميل، تجنباً لمواجهة تكاليف باهظة أو تبعات قانونية حين يحل موعد التسليم الفعلي للعقود التي اشتروها بغرض المضاربة.
بعبارة أخرى، فإن قدرة اللقاحات الجديدة على احتواء انتشار كوفيد 19، ووتيرة عودة الحياة والنشاط الاقتصادي إلى طبيعتها ستكون هي المحدد الرئيس لاتجاهات أسواق النفط خلال الأشهر الأولى من ولاية بايدن.
وبحسب تقديرات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، فإن استهلاك الوقود السائل قد انخفض خلال العام الماضي بنحو 9 في المائة في المتوسط، وبالتالي فإن استعادة معدلات الاستهلاك الطبيعية ستضيف إلى الطلب العالمي نحو مليوني برميل على الأقل.
ويربط البعض بين التوقعات الإيجابية لأسعار النفط والإجراءات المشددة التي وعد بايدن باتخاذها فور توليه زمام الأمور، وذلك مقارنةً مع ما يصفه منتقدي ترامب بتساهل الرئيس المنتهية ولايته في التعامل مع الوباء. ويرى كثيرون أن ترامب قد تأخر في فرض إجراءات الإغلاق الاقتصادي كما هون من خطورة الفيروس لأسابيع عديدة، وهو الأمر الذي تسبب في أن تصبح الولايات المتحدة المتضرر الأكبر من انتشار فيروس كورونا، والذي حصد أرواح أكثر من 375 ألف أمريكي فيما تجاوز عدد الإصابات 23 مليوناً، تشكل أكثر من ثلث إجمالي عدد الحالات على مستوى العالم.
على النقيض من ذلك، يطالب بايدن بفرض ارتداء الكمامة في الأماكن العامة ووسائل المواصلات، كما يقترح العديد من التدابير الأخرى التي قد تسهم في محاصرة الوباء بوتيرة أسرع مقارنةً بما كان سيكون عليه الأمر في حال فوز ترامب بولاية ثانية. وتبدو التوقعات متفائلة حتى الآن في ظل توالي الإعلان عن لقاحات جديدة وحصولها على اعتماد السلطات الصحية في البلاد الأكثر تضررًا، مثل بريطانيا والولايات المتحدة، وهو الأمر الذي يدعم التقديرات الإيجابية بتحسن معدلات الطلب وعودة الاستهلاك إلى مستوياته الطبيعية بحلول نهاية العام الحالي. وعادت أسعار النفط بالفعل إلى مستوياتها قبل تفجر الأزمة، حيث يتداول خام برنت أثناء كتابة هذه السطور على حدود 56.70 دولار للبرميل، وهو أعلى مستوى منذ منتصف فبراير 2020 .
«إنه سيدمر صناعة النفط!»
كانت تلك هي التهمة التي وجهها دونالد ترامب لخصمه الديمقراطي في معظم المناظرات التي جرت بين المرشحين أثناء الانتخابات الرئاسية. وبعيدًا عن المماحكات السياسية، والمبالغات التي تصاحبها أحياناً، فإن الإدارات الديمقراطية معروفة بالفعل بموقفها المؤيد لما يسمى «الاقتصاد الأخضر»، فيما يقف الجمهوريون تاريخيًا عند مسافة أقرب إلى شركات النفط العملاقة ومصالحها، والتي تتناقض أحياناً مع الاعتبارات البيئية.
وليس أدل على العبارة السابقة من بلوغ الإنتاج الأمريكي لمستويات قياسية غير مسبوقة تحت إدارة ترامب، حيث تجاوز أكثر من 12 برميل يوميًا، وهو ما منح الولايات المتحدة لقب أكبر منتج للنفط في العالم للمرة الأولى في التاريخ، متفوقةً على الزعماء التقليديين في هذا المجال مثل روسيا والسعودية.
ولم تفوت حملة ترامب فرصة الترويج لهذا الأمر سعيًا لكسب نقاط انتخابية، كما سلطت الضوء على موقف حملة بايدن بشكل أكبر في الولايات الرئيسية لإنتاج النفط مثل بنسلفانيا وأوكلاهوما وتكساس.
وبرغم الصخب المثار حول سياسات الطاقة النظيفة التي ينادي بها بايدن، ولكن هناك قدراً لا بأس به من المبالغة، حيث من العسير تصور أن تضحي الإدارة الجديدة بهذا القطاع الحيوي لمجرد الحصول على دعم أنصار البيئة. وكان الرئيس المنتخب أكثر وضوحًا في هذا الصدد، حيث أشار إلى أنه لن يحظر عمليات التكسير الهيدروليكي التي يراها كثيرون الأكثر تلويثاً للبيئة، ولكنه يخطط بدلًا من ذلك لفرض حظر على القيام بعمليات تنقيب جديدة في الأراضي الخاضعة لسيطرة الحكومة الفيدرالية.
وحتى لا يبدو في نظر مؤيديه نكوصًا عن وعوده الانتخابية، أدلى بايدن بتصريحات جريئة قائلًا إنه سيعمل على تحقيق تخفيضات جذرية للانبعاثات الكربونية ربما تنطوي على نهاية لصناعة النفط بحلول عام 2050، مشيرًا إلى ضرورة استبدالها بالطاقة المتجددة بمرور الوقت. هذه التصريحات على أهميتها لن تؤثر في صناعة النفط سوى في المدى الطويل، وهي في كل الأحوال بحاجة إلى إجراءات فعلية على أرض الواقع، فضلًا عن حدوث طفرات في تكنولوجيا توليد الطاقة من مصادر نظيفة، حيث من السذاجة تصور أن العالم يمكن أن يستغني عن النفط كمصدر رئيسي للوقود خلال فترة قصيرة.
من ناحية أخرى، يشير البعض إلى سياسات الطاقة المزمعة للإدارة الجديدة باعتبارها أحد عوامل الدعم الإيجابية للأسعار في الفترة المقبلة، حيث إن عرقلة أعمال شركات التنقيب سيحد من الإنتاج الأمريكي القياسي، والذي كان سببًا رئيسيًا في تخمة المعروض العالمي وضغط بالفعل على أسعار النفط حتى قبل جائحة كورونا.
وبحسب تقديرات خبراء الطاقة، فإن القيود الجديدة قد تخفض إنتاج البلاد بنحو نصف مليون برميل بحلول 2025، وهو رقم هزيل على أي حال. كما يرى آخرون أنه من الناحية العملية، وبفرض تحقق طموحات بايدن لتسريع وتيرة تصنيع السيارات الكهربائية، فإنها لن تشكل في أحسن الأحوال أكثر من 2 في المائة من إجمالي المركبات التي تسير على الطرق الأمريكية بحلول 2030 والتي تشير التقديرات أنها ستتجاوز 275 مليون مركبة.
السياسة الخارجية تحت إدارة بايدن
برغم أهمية التطورات الداخلية في الولايات المتحدة على مستقبل أسواق الطاقة، يرى البعض أن موقف الرئيس الجديد تجاه دول منتجة مثل إيران وفنزويلا ربما يكون له التأثير الأكبر. للتذكير فإن جو بايدن أسهم بشكل فعال في التوصل إلى الاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة أوباما مع نظام الملالي في إيران وتم بموجبه رفع العقوبات عن طهران مقابل فرض رقابة مشددة على أنشطتها النووية.
وانتقد الرئيس ترامب هذا الاتفاق النووي فور وصوله إلى البيت الأبيض، وهدد بالخروج منه ما لم يتم تعديله ليتضمن قيوداً أخرى على أنشطة إيران العسكرية، مثل تصنيع الصواريخ الباليستية وأنشطتها ضد الاستقرار في بلدان الشرق الأوسط، وهي الخطوة التي اتخذها بالفعل في مايو 2018.
وأدت هذه التطورات إلى إعادة فرض العقوبات الأمريكية على طهران، الأمر الذي وجه ضربة قاصمة للجهود الإيرانية لتسويق نفطها سعيًا لإنقاذ اقتصادها الذي يئن لسنوات تحت وطأة العقوبات. وكان الإنتاج الإيراني قد بلغ ذروته عند أكثر من 4 ملايين برميل يوميا، قبل أن يتراجع بأكثر من النصف في ظل سياسة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترامب. في سياق منفصل يرى البعض أن إدارة بايدن ربما تتخذ موقفاً أقل حدة ضد نظام نيكولاس مادورو في فنزويلا، والتي تحتضن أكبر احتياطيات للنفط على مستوى العالم.
وبحسب تقديرات الخبراء، فإن الموقف المتشدد لإدارة الرئيس ترامب تجاه هذين البلدين قد خفض الإنتاج العالمي لأكثر من 3 ملايين برميل يومياً، وهو رقم يمكن أن يسبب تخمة في المعروض من النفط إذا فضلت حكومة بايدن تسوية الخلافات مع إيران وفنزويلا.
وبرغم هذه الافتراضات بشأن السياسات الجديدة لإدارة بايدن، فإن تأثيرها الفعلي قد يستغرق شهورًا طويلة قبل أن تصبح ملموسة على أرض الواقع.
على سبيل المثال، فإن صناعة النفط في فنزويلا كانت تواجه صعوبات كبيرة حتى قبل تشديد العقوبات الأمريكية، حيث تدهورت أوضاع الشركات العاملة في هذا القطاع الحيوي جراء السياسات الشعبوية لنظام الرئيس مادورو. وعلاوة على ذلك، فإن بايدن لن يخاطر بإغضاب ناخبيه من ذوي الأصول اللاتينية الذين ينشط بينهم عدد كبير من معارضي الحكومة الاشتراكية.
ومن ناحية أخرى، فإن الحديث عن عودة بايدن إلى الاتفاق النووي بصيغته القديمة التي أبرمها عندما كان نائبًا لأوباما تبدو فكرة ساذجة إلى حد كبير، في ظل التغيرات العديدة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة.
وفي كل الأحوال، ستتابع أسواق الطاقة عن كثب السياسات التي ستنتهجها الإدارة الجديدة ومدى تأثيرها الفعلي في اتجاهات الأسعار في الفترة المقبلة. وكما أشرنا آنفًا، فإن تعدد وتناقض العوامل المؤثرة في سياق مواقف جو بايدن سيجعل من الصعب توقع المحصلة النهائية بشكل دقيق.
الشيء المؤكد في الوقت الحالي هو أن سوق النفط قد تنتظر أياماً إيجابية بفضل التفاؤل حيال اللقاحات الجديدة لفيروس كورونا، كما ستحصل الدول المنتجة على قدر أكبر من الاستقلالية في تحديد سياسات الطاقة بعيداً عن الضغوط المباشرة التي كان يمارسها ترامب عبر تغريداته النارية. هناك أيضًا تكهنات حول موقف الإدارة الأمريكية تجاه عدد من الدول المنتجة، ولكن على أرض الواقع فإن إحداث التغيير المنشود سيتطلب وقتاً ليس بالقصير، كما أن تساهل إدارة بايدن مع دول مارقة مثل إيران قد يؤجج الصراعات في منطقة الشرق الأوسط ويزيد بالتبعية من علاوة المخاطر السياسية.