د.فوزية أبو خالد
كان هناك عَبْر الأجيال وفي المجتمعات المختلفة مقاييس تميِّز الساحات الثقافية من مجتمع لآخر عبر مراحل التاريخ الحديث إلى لحظة الثورة الإلكترونية الراهنة، كان هناك لحظات في عمر المجتمعات ولا يزال يسطو فيها بريق الحال السياسي على عتمة الحال الثقافي.
ولكن على وجه العموم فإن الوجه الثقافي للمجتمعات يظل هو الوجه الذي يرى فيه الدارسون مرآة لتاريخ المجتمعات ومستقبلها وليس حاضرها وحسب؛ ولذلك كان لا بد من تحديد بعض تلك المقاييس الدالة على ما يميز أو ما ينقص ساحة الثقافة في أي مجتمع من المجتمعات البسيطة.
من تلك المقاييس الملموسة كان سقف الحرية, تعدد الطروحات الفكرية, تنوع المد الثقافي على مستوى الفكر والحوار, الصيحات الجديدة في الإنتاج الأدبي شعرا ونثرا, تعدد المؤسسات الثقافية الأهلية والنقابية, تعدد الفعاليات أمسيات شعرية, قراءات أدبية, معارض تشكيلية, عروض مرئية سينمائية ومسرحية, جرأة الطروحات بل صداميتها في بعض الأحيان , تعدد مجالات العمل الإبداعي من الشعر للرواية والنقد وتعدد نوافذه الورقية بطبيعة الحال عندئذ، وخاصة المجلات المتخصصة في الإبداع والأدب وتعدد الملاحق الصحفية المعنية بالثقافة والأدب, وتعدد دور النشر ونوافذ تجمعات المثقفين العفوية كالمقاهي والنوادي ومواقع الصحف نفسها.
قراءة الواقع تقول على مستوى عربي تحديدا انه كان هناك في التاريخ الحديث عدد من العواصم العربية التي شهدت حالة من انتعاش الحالة الثقافية، لدرجة أن منها ما سُمي بمدينة الأنوار الثقافية، وبعضها سمي برئة الثقافة العربية أو بحاضرة الثقافة كالقاهرة وبيروت وبغداد والكويت في فترات تاريخية محددة لكل منها، خاصة من تلك الممتدة بين الخمسينات إلى بداية الثمانينات من القرن الماضي. وإن لم تمر السعودية بأي من هذه التسميات فقد شهدت الساحة الثقافية مدا وجزرا تراوح بين السبعينات وكان أوجه نهايتها وبداية الثمانينات، وتمثل ذلك المد في عدد من الملاحق الثقافية على وجه التحديد، ومنها ملحق المربد عن جريدة اليوم بالمنطقة الشرقية, وملحق جريدة عكاظ الثقافي وملحق مجلة اليمامة وملحق جريدة الجزيرة وجريدة الرياض, تبع ذلك انكفاءً موجعاً نتيجة الهجمة على الحداثة. إلا أنها ما لبثت أن ظهرت محاولات إنعاش وانتعاش مع مطلع التسعينات وامتدت إلى مطلع العقد الأول من الألفية ومنها التجربة الرائدة على قصرها لمجلة النص الجديد الدورية. عدا عن استمرار وانتعاش عدد من المجلات الثقافية كالجوبة وسيسارا من منطقة الجوف وبعض مجلات الأندية الأدبية كحقول وقوافل ودارين.
تبقى هناك ملاحظة جديرة بالاهتمام والدراسة وهي أن المثقفين الجدد من الشباب السعودي الصغير الذين أغلبهم لم يتلقَ ضربة الحداثة العاتية نهاية الثمانينات ولم يتعرض لرعبها، كانوا هم من شكَّلوا حضوراً ثقافياً نوعياً عبر بواكير الحضور الثقافي الإلكتروني كما في تجربة (جسد الثقافة) وسواه من المواقع الثقافية الإلكترونية المبكرة آنذاك. أما اليوم وبعد عقدين من المد الإلكتروني وبعد بعض نتائجه على التراجع الملحوظ في الإنتاج الورقي للملاحق الثقافية، إذ لم يصمد منه إلا القليل على قلق كالمجلة الثقافية لصحيفة الجزيرة بإشراف د. إبراهيم التركي, وبعض المجلات المستقلة كالجوبة، بالإضافة لعودة مجلة اليمامة محملة بزخم أدبي جديد, فإنه من الصعب في تذبذب سقف الحرية وسطوة وسائل التواصل الاجتماعي على ما فيها من عشوائيات تقديم توصيف دقيق لحالة الساحة الثقافية المحلية اليوم.
غير أن حضور المثقف السعودي المكثف على المنصات الإلكترونية وظهور ما يبدو انفتاحاً ثقافياً عاماً بالمملكة خاصة في مجال الفن وفي المناشط الثقافية والترفيهية، بجانب الإضافة الثقافية النوعية التي يمثلها مركز إثراء لمركز الملك عبد العزيز الثقافي، ومحاولة وزارة الثقافة لتقديم تغير نوعي في بعض المجالات الثقافية، وكذلك المبادرات الثقافية الشبابية الصغيرة كافتتاح مقاهي المكتبات أو مكتبات المقاهي والنشاط الثقافي الإلكتروني الثقافي عبر زووم ومنصات أخرى يستدعي بل يستحق إعادة قراءة لحال الثقافة على الساحة المحلية، لمعرفة ما لها وما عليها وأين نحن ثقافياً اليوم من عالم الثقافة العربي والعالمي، مع سؤال أين نحن الآن عما كنا عليه بالأمس وعما يمكن أن نكون عليه غدا.
فحالة الساحة الثقافية بالمجتمعات على اختلافها تمثل ترمومتر التقدم أو التأخر، بغض النظر أو مع النظر للحالة الصناعية والاقتصادية والصحية، وذلك لسبب بسيط وهو أنه مهما جرى من تغيرات جذرية على مستوى المجالات الحياتية المختلفة، بما فيها التغيرات التقنية الجارفة التي تغير اليوم بغير رجعة أدوات ومنصات العمل الثقافي فستبقى مقولة « ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان « مقولة خالدة بميزان الشعر والنثر والحياة. وليست معركة الانتخابات الأمريكية الأخيرة مجرد معركة سياسية منعزلة في الصراع على السلطة، بل إنها في واقعها واحد من المؤشرات على قلق الأسئلة الذي يواجهه العالم اليوم وتواجهه أمريكا دولة ومجتمعاً كمعقل من معاقل صناعة الحرب والسلام والفكر والتكنولوجيا والمرض والصحة، وهي في صميمها بقليل من التخلي عن سطوة السياسي أسئلة ذات عمق ثقافي صميم.