عبده الأسمري
هذه الذاكرة المتيمة بالحنين والأنين معاً.. تنساب منها الومضات والإضاءات بتذكر متبوع بالتفكر والتدبر وتحتم فيها «الأزمات» المكوث في شعور الوجل في ركن قصي من الاستذكار المشفوع بالحيرة والتساؤل.. وتتبارى فيها «الأحداث» بين رضا مفرح وندم مؤلم.. وتتعالى فيها الأوجاع الغائرة في عمق الروح بصدى يزلزل «صمت» الاقتناع وتتسامى فيها الفوائد السائرة في أفق البوح بمدى يشكل «صيت» الإبداع.
وجوه «الراحلين» الساكنة في قلب «الذاكرة» والماكثة في قالب «المجاهرة» تأبى إلا أن تقفز على أسوار الحضور رغماً عن تبريرات «النسيان» لتهزم كل احتياطات «السلوان» ولكنها تظل في مجال «تذكر» مؤقت لا يلبث أن تنجلَّى غمته بمجرد الاستعانة بالعبر والإعانة بالصبر في دعوة صادقة لهجتها «السن» تنتمى لأنفس وفية واحتضنتها «قلوب» تقيم في أنفس نقية أو حظوة موثقة تركها «الراحل» في متون «الحسنى» أو شفاعة مؤجلة تبقى في شؤون «الغيب»..
الأماكن الأولى تعيد الطفولة إلى موطنها الأصلي فتأتي «المشاهد» البريئة لتهزم كل بوادر «التصنّع» وجميع محاور «الزيف» في مراحل العمر ليرى الإنسان مشهداً قائماً بتشكيلته الطبيعية وطبيعته الشكلية بلا تدخل أو تخطيط ليكون كالطود أمام موجات السنين.
يداهمنا «الاستغراب» ويستعمرنا «الاندهاش» بين تبدلات في مسالك «أناس» تجردوا من معاني «الوفاء» وتخلوا عن معالم «الصفاء» في «تضاد» مؤلم بين التوقع والواقع و»ارتداد» أليم بين حسن الظن وسوء الفعل فتملي علينا الذاكرة مشاهد متقلبة تنظم مواعيدها على عتبات «التفكر» فتتشكل خارطة «التذكر» بخطوط متعرجة غير مفهومة لحدود نضطر في النهاية إلى مسحها لإبقاء المشهد أبيض بعيداً عن «عرفان» منكور.. أو نكران معروف..
تحشد العولمة كتائبها «البائسة» لتخفي عناوين «الأماكن» التي ضاعت وغابت في أطار المحيطات الأسمنتية والمصدات الحديدية وكأنها تتمعن في تقييدنا وسط زنزانة من الاعتراف بالتحول الأليم الذي يجعل ذاكرتنا في مد وجزر فكري للبحث عن «الغائب» والانتظار أمام «الغيب» في ظل استذكار «مفرح» لأزمنة كان فيها «الإنسان» يرسم الحياة بخطوط واضحة بعيدة عن التكلّف والتزلّف ويعلن فيها التعايش في إطارات من «الرغبة» و»الرهبة» وسط مجتمع يحمل الوجوه «الثابتة» التي ظلت بقاياها «طوق نجاة» من تدخل «سافر» لهجمات فوضوية لا تنتمي للرقي والأصالة.
في الجزء المشرق من «الذاكرة» تأتي الصداقة في متون «مشرقة» وشؤون «مبهجة «في محطات العمر التي يتراوح فيها هذا المفهوم ما بين العرفان الذي يتدرج بين الوفاء والامتنان والنكران الذي يتباين بين الجفاء والخذلان فيكتنز «العقل» المواقف في اختزال متأرجح من البصمات والصدمات..
تمر على ذاكرة الإنسان يومياً عشرات الوجوه والأماكن والمواقف والوقفات والتحديات والنجاحات والسقطات والتجارب والمشارب في «توليفة» مذهلة من التنوّع و»تشكيلة» متباينة من الاختلاف.. فيأتي «السلوك» من واقع «الاستذكار» في رجوع إلى «الاقتداء» وتراجع عن «الأخطاء» فتتشكَّل «الشخصية» في ملامح جديدة تتعامد على الحقائق وتعتمد على الوقائع.. وسط ارتداد نحو الفائدة واستناد إلى المنفعة..
الذاكرة المشفوعة بالحنين إلى مربعات العمر الأولى تمثِّل دهراً للثبات وتمر السنين لتتحول إلى مهراً للإثبات في يقين يكبر مع الإنسان يرسم معاني «الاعتبار» من تجارب الحياة و»الانتظار» على بوابات الآمال.
يظل الإنسان في تفاعل مع المؤثِّرات بكل تفاصيلها واستقبال للتأثيرات بشتى معانيها فتختزن الذاكرة الكثير من الأحداث والعديد من الأحاديث وتبقى في شد وجذب مع الجديد في العيش والمتجدِّد في التعايش فتتشكَّل «النتائج « على النفس في هيئات مختلفة وأشكال متخالفة من حيث التأُثر بالألم والتألم بالتأثير والحزن للفاجعة والفجيعة للنازلة وسرور البهجة وابتهاج الفرح.. لتستمد «المشاعر» الإنسانية من «خزائن» التذكر خطط الحياة ومدد النجاة وصولاً إلى توافق ما بين رصيد مكتظ بالخبرة الحياتية وحاضر ممتلئ بالتوجس المشروط وفي انتظار مستقبل مرتهن إلى غيبية القدر..
الإنسان في سباق مع الزمن وتسابق مع العمر وفي نهاية المطاف ستمتلئ الذاكرة بالعديد من الشؤون والشجون والشعور والمشاعر وستظل منبعاً للسلوكيات ونبعاً للإمضاءات التي تظل شاهدة بعد الرحيل وصامدة أمام التأويل..