د. محمد بن يحيى الفال
في العشرين من يناير تتوجه أنظار العالم إلى واشنطن. العاصمة الفيدرالية للولايات المتحدة الأمريكية، حيث تشهد العاصمة مراسم تنصيب جو بايدن لتولي مهام الرئيس السادس والأربعين وذلك في ظروف استثنائية غير مسبوقة في التاريخ السياسي الأمريكي برمته القديم والحديث منه. هذه الظروف تشمل انقساماً حاداً بين الأمريكيين أنفسهم قد يعود بالذاكرة التاريخية إلى أجواء الحرب الأهلية الأمريكية كما كتب عنها مؤرخو من عاصروها. انقسام مجتمعي كانت نتيجته التي لم تكن في الحسبان قيام مجموعة من رافضي نتائج الانتخابات الرئاسية باقتحام مبني الكونجرس بدعوي أن الانتخابات التي جاءت ببايدن رئيساً هي انتخابات تم تزويرها بشكل ممنهج وكما يدعي ذلك الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب. اقتحام الكونجرس نتج عنه خمس وفيات بعضهم من حراس المجلس وآخرون من المقتحمين أنفسهم. الفوضى كانت عارمة والصور التي تناقلتها وسائل الإعلام عن الاقتحام لم تكن لتخطر على بال أكثر المحللين السياسيين تشاؤماً. المشرعون الديموقراطيون ومن هول ما حدث لم يكن من خيار أمامهم سوى المضي قدماً نحو إجراءات تفعيل عزل الرئيس الذي يُتهم بأنه هو من كان وراء الاقتحام غير المسبوق لقلعة الديموقراطية الأمريكية ورمزها الأكثر شهرة، الكونغرس الأمريكي. إجراءات عزل الرئيس للمرة الثانية والتي بالكاد يفصلها سنة واحدة فقط عن إجراءات عزله الأولى تشكل بحد ذاتها سابقة تاريخية في الحياة السياسية الأمريكية، حيث لم يسبق طوال التاريخ السياسي الأمريكي أن تعرض رئيس لإجراءات العزل مرتين. فشلت إجراءات عزل ترامب الأولى بسبب عدم تصديق مجلس الشيوخ عليها والذي تمتع فيه الجمهورون، حزب الرئيس ترامب بالأغلبية التي عطلت تفعيل العزل الذي صوت عليه مجلس النواب بالأغلبية. إجراءات العزل الثانية التي صوت عليها مجلس النواب تمت بفارق مهم ذي محورين أساسيين هما أن الرئيس لم يتبق له في عهدة رئاسته سوى سبعة أيام والثانية هي انضمام عشرة من النواب الجمهوريين بالموافقة على إجراءات العزل التي صوت لها النواب الديموقراطيون بالإجماع ومن المتوقع أن تحال هذه المرة إلى مجلس الشيوخ ذي الأغلبية الديموقراطية، حيث يحتاج الديموقراطيون إلى سبعة عشر صوتاً جمهورياً وهو أمر يبدو صعباُ وذلك لتمرير العزل لرئيس سيكون من الناحية العملية خارج السلطة. بيد أن الواضح من كل هذه الجهود القانونية التي يتبعها الديموقراطيوهي القضاء على الفكر الترامبي بالضربة القاضية ويؤكدون بأنه فكر يروج لأفكار كل تنظيمات اليمين المتطرف في أمريكا الذي يرى في الرئيس ترامب كمخلص ومساند لأيدولوجيته المنغلقة التي زادتها الأزمات الاقتصادية الكثير من الانغلاق والتطرف.
يوم تنصيب الرئيس على الردهة الخارجية المؤدية لمدخل الكونغرس، معقل الديموقراطية الأمريكيين والذي في العادة يكون يوم فرح ومرح يتوافد فيه الأمريكيون من الكثير من الولايات وخصوصاً الولايات القريبة من العاصمة الفيدرالية وذلك للمشاركة في مشاهدة أهم حدث سياسي للأمة الأمريكية، بيد أن احتفال هذا العام سيكون مختلفاً جذرياً وذلك مع نشر أكثر من 22 ألفاً من رجال الحرس الوطني الأمريكي بالإضافة إلى شرطة العاصمة لحفظ الأمن وتزايد مخاوف بهجمات إرهابية لتعكير احتفاليه تنصيب الرئيس الأمريكي السادس والأربعين جو بايدن، هجمات كشف عنها مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف.بي.آي).
الأجواء السياسية والاقتصادية لأمريكا المرافقة لتنصيب بايدن وفيما يتعلق بالتاريخ السياسي الأمريكي تبدو مشابهة لأجواء تنصيب فرانكلين روزفلت، الرئيس الثاني والثلاثين للجمهورية الأمريكية التي صادفت حينها وفي فترة ولايته الأولى أحداث الكساد العظيم الذي شل الاقتصاد الأمريكي ولتتبعه مجريات الحرب العالمية الثانية وذلك خلال ولاياته الثلاث الأخرى وليكون الرئيس الأمريكي الوحيد الذي تولي رئاسة أمريكا لأربع فترات توفي في فترتها الرابعة وليتم التعديل الثاني والعشرين للدستور الأمريكي بعد وفاته بأشهر ، وهو التعديل الذي يُحدد للرئيس الأمريكي تولي فترتين رئاسيتين فقط ولأربع سنوات لكل واحدة منهما. الرئيس روزفلت وبسبب الظروف الاقتصادية والسياسية التي تولي خلالها الرئاسة، قاد الأمة الأمريكية للخروج من الكساد العظيم ببرنامجه «New Deal»،»الخطة الاقتصادية الجديدة»، التي قدمت من خلالها الحكومة الفيدرالية مئات البرامج من المعونات الاقتصادية في كافة المجالات وخصوصاً قطاعات البنوك، الزراعة والصناعة والتي أخرجت أمريكا بسرعة فائقة من قبضة الكساد العظيم ولتدخل الحرب العالمية الثانية ولتخرج منها منتصرة ولتقود العالم الغربي من ذلك الحين. ظروف تولي الرئيس بايدن سدة الحكم في أمريكا تشبه إلى حد بعيد ظروف تولي الرئيس روزفلت خصوصاً فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي الذي أضحى مأساوياً بسبب تداعيات الانتشار المخيف لفيروس كورونا على الأرض الأمريكية والذي كانت نتائجه كارثية على الأمريكيين بعشرات الآلاف منهم سقطوا ضحايا له وملايين منهم وجدوا أنفسهم خارج سوق العمل. ومع ضخامة الأزمة التي ستواجه إدارة بايدن -هاريس بسبب أزمة كورونا فإن المؤشرات الأولية تؤكد بأنهما في طريقهما لصنع معجزة تنتشل الاقتصاد الأمريكي من تعثراته التي أحدثتها الجائحة الكونية، ونرى هذه المؤشرات بادئ القول في الفريق الذي اختاره الرئيس بايدن لمساعدته في مهمته المعقدة بدءاً من اختياره لنائبته كاميلا هاريس السيناتورة عن ولاية كاليفورنيا ومروراً بكل أعضاء إدارته الذين تم تعيينهم في المناصب التي ستكون محورية في نجاح خططه لإنقاذ أمريكا من أسوأ تعثر اقتصادي تشهده ليس له شبيه سوى الكساد العظيم الذي شهدته البلاد في الثلاثينات من القرن المنصرم. الرئيس بايدن كذلك يُعرف عنه بأنه يؤمن بالتعاون الحزبي بين الديموقراطيين والجمهوريين Bipartisan «من أجل تفعيل عملالحكومة وهو الأمر الذي أضحى مهماً للغاية لمواجهة التداعيات الخطيرة لجائحة كورونا.
ومع تنصيب الرئيس جو بايدن في العشرين من يناير تبدأ حقبة جديدة من التوجه السياسي الأمريكي الذي يؤمن به الرئيس الجديد وهو أن أمريكا قوية دوماً بقوة علاقاتها مع حلفائها، ونرى هذه التوجه واضحاً في اهتمام الرئيس بايدن ببناء علاقات قوية مع حلفاء أمريكا في العالم حين تحدث في مقابلة صحفية في الآونة الأخيرة عن أهمية ضم دول الخليج العربي لأي اتفاق قادم مع ملالي إيران. وعليه يتوقع المحللون السياسيون بأن العلاقات السعودية - الأمريكية ستتجه نحو تقويتها وتعزيزها سواء على الجانب الثاني بين البلدين أو فيما يتعلق بالشأن الإقليمي والدولي.
اقتصادياً، البلدان في حاجة إلى تعزيز التعاون بينهما لعالم ما بعد كورونا يحتم عليهما تعزيز التبادل التجاري بينهما وتبني سياسات مشتركة لمواجهة المشكلات التي تواجه العالم والإقليم، خصوصاً فيما يتعلق بإيران وحربها بالوكالة التي تديرها في اليمن من قبل عصابة الحوثي التي تم مؤخراً تصنفيها أمريكياً كمنظمة إرهابية. تهديدات ملالي إيران تشمل كذلك خطورة برنامجهم للصواريخ الباليستية وتخريبهم لإمدادات الطاقة العالمية وتهديدهم لأمن طرق الملاحة الدولية في الخليج العربي والبحر الأحمر.