عبدالرحمن الحبيب
قدم محرر مجهول على موقع ويكيبيديا معلومات كاذبة في سيرة الشخصية السياسية الأمريكية جون سيجنثالر في مايو 2005، كمشتبه به في اغتيال جون ف. كينيدي. بقي المقال غير مصحح لمدة أربعة أشهر. سأل سيجنثالر المؤسس المشارك لويكيبيديا جيمي ويلز عما إذا كان لديه أي طريقة لمعرفة من أسهم بالمعلومات المضللة. رد ويلز بأنه لم يفعل ذلك، على الرغم من تعقب الجاني في النهاية. بعد الحادثة، وصف سيجنثالر ويكيبيديا بأنها «أداة بحث معيبة وغير مسؤولة». أدى هذا الحادث إلى تغيير في منهجية عمل ويكيبيديا، استهدفت تحديدًا تشديد إمكانية التحقق من مقالات السيرة الذاتية للناس الأحياء، وإعادة طريقة تحرير المحتوى.
قبل أيام احتفل موقع ويكيبيديا بذكرى ميلاده العشرين (15 يناير) كأحد أهم مواقع الإنترنت بالعالم والمكان الثالث عشر الأكثر زيارة.. هذا الموقع قدم حتى الآن أكثر من 55 مليون مقالة مكتوبة بـ303 لغات، (أكثر من مليون مقالة باللغة العربية)، كأكبر موسوعة عالمية بالإنترنت يشارك بتحريرها الجميع: أي إنسان متخصص وغير متخصص أو حتى عابر يضع ما يشاء من معلومات فيها شريطة أن تكون موثقة بمرجع معترف به، أو يضع تعديلات على ما كتب فيها، مما يجعلها عرضة للتضليل المقصود وغير المقصود وحتى التخريب. لذا فإن الموقع نفسه ينصح بقراءة المحتوى دائماً بنظرة ناقدة لأن كتابها ليسوا كلهم ذوي اختصاص..
أخطاء عدم الدقة أو التضليل ليست آخر الانتقادات تجاه ويكيبيديا، فثمة ملاحظات أخرى فأغلب محرري الموقع من الذكور، معظمهم من أمريكا الشمالية وأوروبا، مما يؤدي لصبغة ثقافية محتملة الانحياز؛ يحاول القائمون عليها تغيير ذلك، لكن مع قليل من النجاح.
ورغم وقوع هذه الأخطاء أو على الأقل الركاكة الواضحة في صياغة بعض المقالات بسبب نموذجها التحريري (المشاركة الجماعية بالتحرير) والتي تعترف بها ويكيبيديا من حين لآخر، وتعتذر عن ذلك، وتصحح وتعدل، فإن الموقع يعتبره أغلب المراقبين المحايدين والدارسين الأكاديميين قد نجح على المستوى العالمي وبشهادة كثير من الجهات العالمية.
فعلى سبيل المثال، يذكر الموقع أن اليونسكو أصدرت تقريراً بأن «ويكيبيديا مصدر مشهور للمعلومات العلمية لأن ويكيبيديا تملك ترتيب متقدم في محرك بحث ويب». وتذكر مجلة الإيكونيميست: «يمكن أن يسبب ذلك مشكلات: للأفضل أو للأسوأ، إذ أصبحت المنصات القوية من شركات وسائل التواصل الاجتماعي إلى منظمة الصحة العالمية تتعامل معها على أنها منبع الحقيقة على الإنترنت. ومع ذلك، فإن العالم أفضل بكثير لوجوده».
هذا النجاح يرجعه القائمون على ويكيبيديا لما وضعوه من مجموعة سياسات وتعليمات يجب على مستخدميها الالتزام بها عند تحرير وتعديل محتويات الموسوعة، مثل عدم وضع أي معلومة دون مصدر موثوق وحيادي، وتسليط الضوء على الاختلافات بين مصادر الموضوع.. ومثل حماية بعض الصفحات المثيرة للجدل أو الحساسة المعرضة للتخريب.. أو قفل تعديل مقال مثير للجدل بشكل خاص حتى يتمكن المسؤولون فقط من إجراء تغييرات.. هذه السياسات تهدف إلى التصدي لمحاولات التخريب، وتحاول ضمان مصداقية المعلومات التي تحويها المقالات.
لذا فإن أهم ما يميز الموقع هو نظام إدارة المحتوى المستعمل فيها، المسمى «ميدياويكي»، إذ إنه يدار بواسطة أشخاص وليس آلات ولا توجد خوارزميات توصية تختار ما تريد إظهاره للقراء من أجل إبقائهم ملتصقين بالموقع لأطول فترة ممكنة. أضف إلى ذلك هيكله الموقع فمؤسسة ويكيبيديا، هي منظمة غير ربحية تمول من التبرعات، ولا تتعرض للضغط للحصول على أرباح من المساهمين، ولا لضغط المعلنين لجلب الأموال، ولا ضغط القراء للحصول على مزيد من المتابعين..
لكن هل يمكن مقارنة ويكيبيديا بأم الموسوعات: الموسوعة البريطانية التي تصدرها مؤسسات عريقة ويحرر كل حقل فيها علماء ومتخصصون مهرة، وكل كلمة فيها يتم تمحيصها لدرجة لا تجد من أي مختص مضاد ثقافياً أي معارضة على معلوماتها إلا نادراً؟ طبعاً المقارنة مجحفة إلا أن المفارقة المؤلمة أنه في ظل تصاعد ويكيبيديا تنقرض الطباعة الورقية للموسوعة البريطانية. هذه الموسوعة التي عمرها قرنان ونصف القرن، وتصدر 32 مجلداً تغطي كافة المعارف الإنسانية، ويحررها كبار المفكرين والموسوعيين وأساتذة الجامعات أصبحت تلهث وراء موسوعة ويكيبيديا التي بالكاد بلغت عقدين من الزمن بالإنترنت، ويشارك بمعلوماتها كل الناس حتى الأطفال! لقد قررت الموسوعة البريطانية قبل عدة سنوات التوقف عن الطباعة بمجلداتها المشهورة، والاكتفاء بالنشر الرقمي لمواجهة المنافسة الشديدة من موسوعات الإنترنت. الموسوعة البريطانية التي كانت توصل مجلداتها للمنازل، بلغت مبيعاتها بالإنترنت نحو 85 في المائة فيما انحدرت المبيعات الورقية إلى رقم ضئيل قبل أن تتوقف نهائياً.
مهما يكن من أمر، فويكيبيديا هي أوسع من كافة الموسوعات وإن لم تكن أدقها، وينبغي التعامل معها بعين نقدية فاحصة مع شكٍّ مُنصف. هذا أسلوب صحي يوصي به أيضاً القائمون على الموقع الذي يسعى إلى تقليص الأخطاء الحتمية الواردة فيه.. يقول الروائي الإيرلندي أدريان ماكينتي: «في صفحة ويكيبيديا الخاصة بي، يُقال إنني ولدت في بلفاست، إيرلندا، ثم قيل بلفاست، إيرلندا الشمالية، ثم قيل بلفاست، المملكة المتحدة، لذلك كانت هناك حرب صغيرة تدور حول مكان بلفاست».