د. صالح عبدالواحد
لا يوجد وقت أفضل من الآن لتوضيح دور الصحافة السياسي. تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب جعلت ذلك مهمة سهلة جدًا.
المواطن السعودي لا يستطيع تفسير عدم وجود ردة فعل حقيقية من أعضاء الكونجرس ضد حوادث إطلاق النار في المدارس الأمريكية، والتي تقتل أطفالا أبرياء، بينما يشاهد الفزع في عيون أعضاء الكونجرس أنفسهم عند اقتحام المبنى بدون إطلاق الرصاص.
أهمية الصحافة الأمريكية التي تعتبر الأكثر تأثيرًا في العالم أجمع تكمن في كونها عامل الضغط الأساسي على الكونغرس، ومن ثم على الحكومة التنفيذية، وبالتالي رسم الأجندة السياسية.
دور الصحافة الحقيقية، دون أي وسيلة مساعدة أخرى، كان واضحًا في تحريض الحكومة الأمريكية للوقوف في وجه الغزو الروسي لأفغانستان. عضو مجلس الشيوخ شارلي ويلسون، وتحت تأثير الصحافة، تبنى قضية الغزو الروسي لأفغانستان، وبدأ الضغط على الحكومة الأمريكية لإنهاء الحرب. وانتهت بالفعل.
تم تأليف كتاب عن الأحداث، وتم أيضًا إنتاج فيلم يحكي هذه القصة اسمه «حرب تشارلي ويلسون».
لعب الضغط الصحفي كذلك دورًا بارزًا في التأثير على الكونجرس لرفع الحظر عن بيع السلاح لمسلمي البوسنة في الوقت الذي رفضت الدول الأوروبية التدخل لإنهاء المجازر. أوروبا التي تنتقد الحروب التي تقع خارج أراضيها بشكل فوقي ومقزز في بعض الأحيان، عجزت عن إنهاء الحرب التي تقع في خاصرتها.
التقرير الصحفي الصادق لا يحتاج إلى محام بارع أو قاض نزيه. يحتاج فقط إلى الفكر السليم والقلم الصادق.
لم يكن ترامب أول رئيس يخسر الانتخابات لفترة ثانية، أو أول رئيس يعيش فترة خروج المواطن الأمريكي إلى الشارع ومحاولة اقتحام المباني الحكومية، فقد خرج الأمريكيون خلال فترة حكم الرئيس نيكسون في مشهد يشابه كثيرًا المشهد الذي شاهدناه مؤخرًا. الصور التي يتم تداولها اليوم عن اقتحام الكونجرس ليست غريبة عن مشهد الحياة الأمريكية، في عهد الرئيس نيكسون حاول المواطنون اقتحام البيت الأبيض، وبسبب عدم اكتشاف الحواجز الخرسانية في ذلك الوقت، قام رجال الأمن بتطويق البيت الأبيض بحاجز من باصات نقل الركاب لبناء جدار مقاومة سريع أمام الجماهير. بالطبع كان سبب المظاهرات مختلفا ولكن مبدأ الخروج قائم وثابت.
في الوقت الذي وقعت فيه تلك الأحداث، لم يكن حتى مكتشفو وسائط التواصل الاجتماعي قد ولدوا بعد، الصحفي الموهوب فقط هو سيد الموقف.
الرئيس نيكسون لم يكن سيغادر منصبه لو لم تتدخل الصحافة في التحقيق في «ووتر غيت». التقارير التي كتبها الصحفي بوب وودوارد مع زميله كارل بيرنستين فتحت الباب لسلسلٍة من التحقيقات انتهت بأول استقالة لرئيس أمريكي. لم يكن الرئيس نيكسون يعاني من قلة الخبرة أو نقص المعرفة السياسية كما هو الحال مع الرئيس ترامب، فقد عمل نائبًا للرئيس أيزنهاور لمدة ثماني سنوات، ولكن التقرير الصحفي المهني أنهى فترته الرئاسية الثانية. في حفل الوداع ألقى نيكسون كلمة مؤثرة قال فيها:
« قد تعتقد أن الهزيمة أو خسارة الانتخابات هي النهاية... تذَكّر... قد يكون هناك من يكرهك، لكنهم لن ينتصروا عليك إلا إذا أنت كرهتهم... عندها... تكون قد دمرت نفسك».
يبدو واضحًا أن الرئيس كان يلوم نفسه في هذه الكلمة المؤثرة، وكأنه أيضًا كان يخاطب ترامب بتلك الكلمات حرفيًا.
تم إنتاج فيلم إسمه «جميع رجال الرئيس» يروي أحداث هذه القصة ويعتبر مصدر معلومات واجب المشاهدة لكل مهتم بالإعلام ومرجعًا مهمًا لتلك الأحداث.
التأثير الصحفي واضح جدًا، لم يكن هناك تويتر أو فيسبوك أو واتس أب. لا يوجد هاتف جوال بيد كل شخص ليقوم بنقل الأحداث وتصويرها. هذه الأحداث مر عليها نصف قرن تقريبًا.
موقف الرؤساء الأمريكيين الحذر أمام الصحافة الكاذبة قديم قِدَم هذا المنصب.
لم يكن ترامب أيضًا أول رئيس يتهم الصحافة بوجود انحياز ضده. الرئيس الراحل ريغان عبر صراحة قبل أربعين عامًا عن وجود أصابع خفية للإعلام في بلاده، هذا يؤكد وجود الصحافة الكاذبة أو «الموجهة»، وأنها جزء حقيقي من مكونات الإعلام الأمريكي. خلال أول كلمة له أمام الكونجرس الأمريكي ضمن خطاب «حالة الاتحاد»، امتدح رونالد ريغان أول رؤساء أمريكا جورج واشنطن وروى عنه أنه قال جملة شهيرة عام 1790م يصف بها روعة الديموقراطية الأمريكية، ليتوقف ريغان ويقاطع نفسه ليقدم دعابة ذات مغزى: «لأصدقائي الصحافيين، الرائعين في وضع الكلام في غير محلة، أود أن أعترف أنني لم -أسمع- ذلك الحديث من الرئيس واشنطن شخصيًا».
أي جملة يقولها رئيس أمريكي حتى لو كانت دعابة تعني الكثير.
الرئيس بيل كلينتون وفي بادرة تدل على أهمية بناء العلاقات العامة مع الصحفيين لبى دعوة الصحفي الشهير ديفيد برينكلي الذي كان قد شتمه قبل اللقاء بأيام قليلة.
برينكلي ومن خلال تغطية الانتخابات الأمريكية، وفوز كلينتون بفترة رئاسية ثانية شتم كلينتون وهو يعتقد بأنه ليس على الهواء، وسمعه ملايين الأمريكيين. ولكن ابتعاد الرئيس كلينتون عن الحقد وعدم الرغبة في الانتقام جعله يلبي الدعوة لحضور البرنامج التلفزيوني «ديفيد برينكلي».
خلال تلك المقابلة قدم برينكلي اعتذاره للرئيس كلينتون وأخبره أنه سيترك العمل الصحفي لأن أي شخص لا يستطيع ضبط لسانه لا يستحق أن يكون في هذه المهنة.
هناك أمثلة كثيرة عن التقارير الكاذبة، والمساحة ضيقة. الإعلامي الشهير دان راذر نشر تقريرًا عن الرئيس بوش الابن، تسبب التقرير في حدوث بلبلة مؤقتة اتضح بعدها أنه مزيف وتم طرد راذر من منصبه. نيويورك تايمز الصحيفة العريقة، وقعت في فخ الفضائح حيث نشرت تقريرًا صوتيًا في لقاء مع شخص ادعى انضمامه لداعش الإرهابية، راويًا تفاصيل دقيقة لمعارك وقتل ودماء. حصد التقرير جوائز عديدة، ليتضح بعدها أن جميع المعلومات في اللقاء والتي أدلى بها هذا الشخص ملفقة بمجملها، وأن قدميه لم تطأ أرض العراق أبدًا! تم بالطبع سحب الجوائز بعد إحراج مخٍز للصحيفة التي تعمل الآن على وضع الخطط لكسب الثقة الشعبية مرة أخرى.
خارجيًا، تعتبر المملكة العربية السعودية بما تحمله من أهمية عالمية في العالم العربي والإسلامي والاقتصادي، وبما تتمتع به من مبادئ ثابتة، تعتبر هدفًا دائمًا لتلك التقارير الصحفية الكاذبة. تعاني بلادنا من الهجمات الصحفية المدسوسة من القريب ومن البعيد، ومن المعروف أن موقف الحكومة السعودية هو تجاهل تلك المقالات التافهة. وإلا أصبحت الحصاة بدينار.
وإن كانت الولايات المتحدة الأمريكية التي تحاضر الدول عن حقوق الإنسان قد عاشت تجربة الفوضى وفشلت في مكافحة الشغب بشكل كبير حيث تخلل المظاهرات إطلاق النار وإصابات وفوضى عارمة، فهذا لا يعني أن الصحافة الأمريكية لن تدس أنفها في كل صغيرة وكبيرة في المستقبل.
وصول الديمقراطيين مجددًا للحكم يتطلب التحضير لسلسلة مقالات صحفية أمريكية كاذبة عديدة تستهدف الاستقرار في المنطقة بشكل عام والمملكة العربية السعودية بشكل خاص. عهد أوباما ليس عنا ببعيد.
دور الصحافة الإيجابي والسلبي لخصه الملك عبدالله بن عبدالعزيز- يرحمه الله- في عقر دار الصحافة الأمريكية بجملة واحدة، عندما نظر إلى الصحافيين الأمريكيين في البيت الأبيض بكلمٍة أوجز فيها وعبر قائلاً:
«الله يعطينا خيركم ويكفينا شركم».