حفل عام 2020م بأدب أحسبه يمثل نوعًا من الأدب العربي، جديدًا بشقَّيه الفصيح والشعبي، وسأحاول التوقف عنده في النقاط الآتية:
(1) دهشة المفاجأة: حيث وجد الناس حالهم في حال متغير. فجأة الزيارات تغير نظامها، والحفلات تغير نظامها، ودور العبادة، بما فيها الحرمان الشريفان، تغير النمط المعتاد لأداء العبادة فيها، بما فرض في واقع الكورونا من إجراءات احترازية، جعلت هناك أحيانًا إغلاقًا مؤقتًا، وتباعدًا بين الصفوف. وشعيرة الحج التي حلت في العام نفسه كانت بنمط خاص وترتيب خاص حفاظًا على سلامة الإنسان. ولعلي في هذه العجالة أقف على نماذج من هذا الأدب بشقيه الفصيح والشعبي. ففي المجال الأول صادفت نصًّا ليحيى حقي، يقول فيه ما مؤداه: إن الموت والحياة تقدير إلهي، ليس للإنسان دور فيه، سواء كان بكورونا أو بغيرها، تناصًّا مع قول القائل: تنوعت الأسباب والموت واحد.
وفي نص لأبي رائد الأستاذ جميل القرشي، يرثي فيه عدم الزيارة مفصحًا أن ذلك يأتي خوفًا من الكورونا. وقد كتب الدكتور سعيد السريحي كتابًا في ذلك، أسماه (جدار الوقت)، أرجو أن يتسع لي الوقت والعمر كي أطلع عليه، وأحدثكم عنه بمشيئة الله في قراءة قادمة خاصة به.
(2) إظهار التورع والخوف والقلق من البُعد عن الأهل والأقارب والأصدقاء كما مر معنا في نص سابق للدكتور عاطف بهجات، قال فيه:
فأنعم يا إلهي، واشفِ عَبْدا
إليك المبتغى منك الرجاء
(3) حضور ثقافة الموت مغلفة بثقافة الحياة؛ فكثرت النصوص التي تتحدث عن الموت في الرثاء والشكوى، وانتشرت المقاطع المجددة للابتهاج بالحياة في وسائل التواصل الاجتماعي. مثل هذا المقطع الذي يقول فيه المغنون المبتهجون:
«والله أنا براحة لين جتنا كورونا لين جتنا كورونا
وانحشرنا بوسط البيت ما حد يجينا، كيف ما أحد يجينا
ما أحد منا يغادر فالحظر كل أبونا فالحظر كل أبونا
من ثلاث العصر فالبيت متواجدينا».
وقد كتبتها بنصها الشعبي حرصًا على إظهار النص بشغف الراقصين به؛ فهم على الرغم من قلقهم وخوفهم إلا أنهم حرصوا على الإمساك ببعضهم والرقص بشكل جماعي مع التصفيق، وكأنهم يهتفون للحياة القلقين عليها، يهتفون لها ليجتمعوا بها، ويتناسوا الموت المخيف.
وكثرت اللقاءات مع المعمرين، وكأن ذلك رسالة خفية ضد الموت مغلفة أحيانًا بالنكتة وروح الدعابة، مثل لقاء سمعته مع أحدهم يبتهج بحياته التي طالت، بينما لا يتذكر من أسنانه على حد قوله إلا عجوزًا أو عجوزَين. (والعجوز) في اللهجة المحكية تطلق على المرأة المسنة خاصة. ويبدو أن مثل هذه اللقاءات تكاثرت، وتفاعل معها الجمهور المتلقي بسبب من القلق المسكوت عنه والمسكونة بالخوف من هذا الوباء العنيد.
وفي هذه الفترة كثرت تلاوات سور معينة في الصلوات لدلالتها على الوباء وحالة القلق التي استشعرها الأئمة في المصلين، وحاولوا أن يكونوا في أفقهم المنتظر؛ فكثرت تلاوات سورة الفيل المذكرة بالعصف المأكول والطير الأبابيل، وسورة (قريش) المذكّرة بتأمين الله لقريش في الجاهلية من الجوع والخوف. وكأني بـ(الأئمة) أرادوا من ذلك (تطمين) الناس بأن الرعاية الإلهية فوق كل وباء وخوف. ومن السور التي كثرت تلاوتها في الصلوات (سورة البلد) مذكّرة الناس بالطمأنينة لهذا البلد الحرام الذي أقسم به الله - جل جلاله -. وكذلك سورة (التين) للغرض نفسه. وفي خطب الأئمة ودعواتهم تكرر ذكر الوباء، والاستعاذة من شره، والتذكير بالتاريخ الإسلامي مع التعامل مع الطاعون والأوبئة. وهناك نص معبّر للدكتور عبد الرحمن العشماوي، اقتنص المفارقة فيما جلبته الكورونا، نقتطع منه ما يأتي:
أهكذا تسجن الدنيا ومن فيها
سجنا يكبل قاصيها ودانيها؟
ويقول في آخره:
فروا إلى الله مني واطلبوا فرجًا
فالله مالك دنياكم ومن فيها
فالتقط العشماوي القلق الإنساني والخوف، وقرنه بخوف أعلى من خوف الفرد؛ لأنه مرتبط بالخوف من الجبار المتكبر؛ ولذلك أخاف الدول المتغطرسة بثرواتها وعلمها.
وها هو الأستاذ عائض القرني يقول في آخر نص له:
واستبشروا يا عباد الله وانتظروا
لطائف الله يحمينا ويكفينا
فكانت البشارة وسط الخوف هي البشرى والابتهاج بغلبة الحياة للموت.
** **
- د. عالي سرحان القرشي