أدى أبوالريحان محمد بن أحمد البيروني (362هـ/973م -440هـ/1048م) دوراً كبيراً في الاختراعات والاكتشافات والبحث والتحقيق، فهو فلكي شهير، ورياضي كبير، وله بحوث قيمة في الطبيعيات والجغرافيا والتعدين والصيدلة والطب والتاريخ والديانة الهندوسية.
نشأ البيروني وترعرع في خوارزم، أوزبكستان حاليا، وبدأ دراسته منذ نعومة أظفاره بعناية فائقة، ولم ينقطع عنها حتى آخر حياته، فعندما كان يتنفس أنفاسه الأخيرة فجاءه أبو الحسن علي بن عيسى الولوالجي لعيادته، فسأل منه مسألة حساب الجدات الفاسدة، فتعجب المسؤول وقال: أفي هذه الحالة؟ فقال البيروني: أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، أَلا يكون خيرًا من أن أخلِّيها وأنا جاهل بها؟ فأعاد الولواجي المسألة المشار إليها عليه وحفظ، وخرج من عنده، وكان في الطريق فسمع الصراخ عليه.
كان البيروني مفكرًا وفيلسوفًا، وكان ذا احترام وشرف لدى جميع الأمراء والحكام في كل دولة أقام فيها من خوارزم وجرجان وغزنة، وكان أمراء الدولة يحترمونه بسبب ولوعه بالبحث والتحقيق وأعماله العلمية والفلكية العديدة.
يعد البيروني من الأعلام الذين لهم باع طويل في الفلك، فقام ببناء المرصد في خوارزم وجرجان وغزنة، وكانت له جهود في بيان تحويل الأحداثيات السماوية، وميل محور الأرض على مسارها حول الشمس، وذكر الأبعاد للكواكب في أفلاكها وتحديد أوجاتها، وكان له دور كبير في وضع جداول فلكية دقيقة لمواقع النجوم حيث جمع 1029 نجما، وصف فيها مكان كل منها، وأعطى موقعه إلى أقرب دقيقة قوسية. وأثبت براعته في النجوم والفلك.
وكانت له جهود علمية في تناول كيفية حساب مامضى من النهار منذ شروق الشمس عن طريق رصد ارتفاعها، وعن هذا الطريق قام بالاطلاع على خط الشمال والجنوب، وتناول كذلك تعيين وقت الليل عن طريق الأرصاد الليلية على النجوم، وكانت له مهارة في علم الجغرافية والهيئة وتقديم ذخائر نفيسة عن الجغرافية البشرية والوصفية والرياضية.
وإنه خلال بقائه بغزنة أكمل موسوعته النفيسة في علم الفلك، وسماها نسبة إلى سلطان «غزنة»: مسعود بن محمود: «القانون المسعودي في الحياة والنجوم» ونظرا إلى جهوده ليل نهار وتحمله المشاق في إعداد الموسوعة القيمة، أهداه الملك مسعود حمل فيل من القطع الفضية؛ مكافأة له على هذا العمل، ولكن البيروني لم يقبل الهدية ورفضها بعذر الاستغناء عنه مع أنه قدر تكريم السلطان قائلا: «أنه يعمل حبا في العلم وليس لجمع المال». (الصفدي، صلاح الدين، كتاب الوافي بالوفيات، الجزء الثامن، ص: 139)
قدم البيروني معلومات قيمة عن التقاويم والتواريخ ومسائل الفلك والرياضة، فأعد تأليفا جامعا خلال بقائه في جرجان حول هذا الموضوع: «الآثار الباقية عن القرون الخالية»، وهو كتاب في التاريخ العام يتناول التواريخ والتقاويم التي كانت تستخدمها العرب قبل الإسلام واليهود والروم والهنود، ويبين تواريخ الملوك من عهد آدم حتى وقته، وفيه جداول تفصيلية للأشهر الفارسية والعبرية والرومية والهندية، ويبين كيفية استخراج التواريخ بعضها من بعض.
زار البيروني خلال إقامته بغزنة إلى الهند، وقام بدراسة علمية دقيقة لأحوال هذه البلاد، من جميع نواحيها العلمية والدينية، ووضع كتابًا مهمًّا عن تقاليد الهند وديانتها وسماه: «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»، ذكر فيه العقائد الدينية والتقاليد الاجتماعية عند الهندوس كما ذكر عادات الهنود وتقاليدهم وأفكارهم عن الحياة والموت وتناسخ الأرواح وطرق الزواج والميراث، وغيرها.
وكان البيروني مولعا بدراسة المعادن والفلزات والبلورات والجواهر والأحجار الكريمة، فألف حول هذا الموضوع كتابا قيما سماه: الجماهر في معرفة الجواهر، يتألف الكتاب من جزءين، جزء لغوي يشمل شعرا رصينا قاله العرب في وصف المعادن والجواهر والبلورات والأحجار الكريمة والفلزات، والجزء الثاني جيوكيميائي حيث قسم فيه الأحجار الكريمة ورتبها لقيمتها في عصره. وهذا الكتاب يعتبر من المراجع الهامة في الجيوكيمياء.
وكان البيروني مولعا بالصيدلة والطب والعقاقير والأدوية، فكتب فيه كتاب أنيقا سماه: «الصيدنة في الطب»، وهو كتاب مهم ومرجع أساسي في مجال الصيدلة، استقصى البيروني في هذا الكتاب ماهيات الأدوية وأسماءها واختلاف آراء المتقدمين فيها، وماتكلم عن هؤلاء الأدوية العلماء المتقدمون، ورتبه على حروف المعجم.
وكان البيروني ماهراً بفن الجغرافيا ومعرفة المسافة بين البلدين وعرضيهما، وكان له تفوق في رسم الخرائط الفلكية بطريقة علمية، وله مبتكرات في كيفية رسم الخرائط الفلكية للسماوات، ونقل صورة الأرض الكروية إلى الورق، فكتب فيها كتابا شهيرا: «تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن»، تحدث فيه عن موضوعات الجغرافيا بأسلوب سلس عذب وتناول كيفية معرفة المسافة بين البلدين وعرضيهما، وشرح جميع الطرق الحسابية والرصدية لذلك.
وكانت له قصب سبق في إعداد البحوث القيمة في مجال البيولوجيا وتناولها بدقة فائقة حسب قوانينها وذلك بناء على مشاهدة علمية، وتعرض لظاهرة الحياة في مختلف أنواعها من نباتية وحيوانية وبحرية.
وكانت له رغبة أكيدة في تناول حياة كثير من الحيوانات البرية التي كان يواجهها في أسفاره وزياراته من دولة إلى أخرى دراسة وبحثا، فكان يتناول بالتحليل العلمي حياة كثير من الحيوانات البرية، كالأيائل والوعول والأرانب البرية وغيرها. وهكذا أثبت مؤهلاته في مجال البيولوجيا.
هذا غيض من فيض من براعات البيروني ومهاراته في العلوم والفنون، فكان ماهراً في الرياضيات، والفلك والجغرافيا والحساب وشرح الأرقام الهندسية والديانة الهندوسية.
فهو علم بارز، ونجم لامع، وموسوعي متميز، وباحث عملاق، وكاتب فذ، وماهر العلوم والفنون، وخبير الديانة الهندوسية، ومُجيد اللغة العربية والفارسية والسنسكريتية والخوارزمية واليونانية، تفتخر به الإنسانية، ويعتز به التاريخ، ويعلو به شأن العلوم والفنون. دمت يا البيروني ودام عزك في القلوب.
** **
أستاذ مساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض - (أكاديمي وصحافي هندي)