د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** بالتوازي مع سقوط النُّخب الثقافية «الاختياري» فإن من أبرز سمات الزمن الرقمي فكَّ التلازم بين معادلتَي «النص والشخص» حدًّا مُحي معه - أو يكاد - طرفُها الأول «النص»، واكتُفي بالطرف الثاني «الشخص»؛ ليُسر تناوله وتداوله بين العامة الذين يكتفي معظمهم بقراءة السطر الأول، إن لم تكن الجملةَ الأولى أو الكلمة الأولى، وربما أغناهم قراءة رأس الوسم؛ فالحضور في كل القضايا لا يحتاج إلى أكثر من لوحة مفاتيحَ صغيرةٍ، يخطُّ بها مَن شاء ما شاء كيفما ومتى يشاء.
** ولتحديد مصطلح «العامة» فإن كلَّ مَن يفتي في غير فنه عاميٌ، ولو حمل أعلى الدرجات العلمية، أو اقتعد أرفع المراكز العملية. وعهدنا زمنًا يتداخل فيه غير المختصين بأُطرٍ ضيقةٍ، وقد تُعاب منهم، ويُرد عليهم. أما اليوم فالطبيب - مثلًا - آخر من يتكلم في الطب، والاقتصاديُّ مسبوقٌ في قضاياه، بل إن الطبيب نفسَه في تخصصٍ دقيقٍ عاميٌ في تخصصاتٍ أخرى. وكذا؛ فالعالم بأصول الفقه ومصطلح الحديث ذو صوتٍ خافتٍ أمام واعظٍ قرأ كتابَين وجلس في درسَين. والقياس ممتدٌ للآخرين.
** هذه زاوية أولى. وثمة زوايا أخرى، جعلت الزمن الرقمي - في دائرة الرأي - زمنًا تجهيليًّا، يستعيد سيرة أوائل الطيبين الذين كانوا يناقشون مسار الأحداث بعاطفةٍ بريئةٍ؛ فيميلون وينصرفون وفق ما يسمعون. وحكايات أهلنا قبل عقود مؤشرٌ على انتماءاتهم العجلى مشبهةً انتماءات رياضيي زمننا حيث تحكمهم الميول المجردة؛ فما ألِفوه صغارًا لا يستطيعون مغادرتَه كبارًا. والإرادةُ الرغبويةُ غير منطقيةٍ أحيانًا.
** تلك واحدةٌ؛ ليجيءَ تملق الجماهير معضلةً أخرى؛ فمعظم الكتبة يجِدُّون في استمالة التيار العام خشية سطوتهم المُفضيةِ إلى الإثارة والاستثارة والاستعداء والاستعلاء. وهنا يغيب النص، ويحضر الشخص، وتبدأ فِرق التفتيش في استعادة تأريخ جدِّه العاشر، وحظه العاثر؛ إذ لا كمال لسائرٍ أو مساير.
** أما الثالثة فقد افتقدنا - أو نوشك - الأصواتَ الوازنة النائية عن «الأدلجة والبرمجة» معًا، والنادرُ منها - في الزمن الرقمي - غيرُ ذي حضور جماهيري، والحظ الأوفى لمن بضاعته الهذر والهدر، من غير أن نعدم عقلاءَ مستقلي الفكر والتوجه، يعنيهم الجمع لا القسمة، والعِلم لا الحُلم.
** وهنا الرابعة؛ فاليومُ الأخير في حياة كل منا هو الفاصل بين مُنحنيَين، وحساباتُ الحياة لا تعني شيئًا أمام الضمير اليقظ غيرِ المحمّل بأوزار غيره ممن فعلوا ما راق لهم، وتركوا سواهم ينفعل. وليس أسوأ في السلوك من سوء الظن، وتناقل الافتراءات. وعلى من يُقادُ بغيره ألّا يثق بالمسار، ولا يضمن المصير.
** والخاتمة موصولة بتراجع بعض الرقميين وتدافعهم. ولأن التغريدة النوعية والعفوية، والرسالة الجادة والهازلة، والتسجيل الموثق والملفق، والمحاضرة والمهاذرة لا تَخفى ولا تُخفى فقد آن لمن له شيءٌ منها أن يستعيدَ وعيَه.
** النصُّ مبتدأٌ وخبر.