د. فهد بن أحمد النغيمش
جُبلت هذه الدنيا على كدر وإن كنا نريدها صفوًا من الأقذار، لكن سُنة الله في خلقه باقية، وآيته في القرآن قائلة {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}. هذه حقيقة ماثلة، لا ينكرها عقل، ولا يجحدها فكر. ومن هذا المنطلق وجب على كل من دب على هذه البسيطة أن يكون على أُهبة الاستعداد لما قد يلقاه من أحزان ومصائب وكروب وصوارف.. وكم هي المرات التي يُرزأ المرء فيها بفَقْد أحد من أحبابه أو أصحابه أو أصدقائه فتأخذه مسحة حزن أو ألم سرعان ما تنجلي وتنقضي بمرور الأيام والأزمان، لكنّ هناك فقدًا لا يُشبه أي فقد، وحزنًا لا ينجلي لا بمرور الأزمان، ولا باندثار الأيام. هو نقص لا يسده شخص بارع، ولا طبيب حاذق.. ليس له مرتجع، ولا لنسيانه أمد. إنه يا سادة فَقْد لأغلى مخلوق أعطاك من صحته ووقته وعطفه وحنانه، ولم يسألك يومًا أن ترد له معروفه، أو تكافئه على صنيعه. إنها الأم التي هي ملاذ آمن وقت انقضاض جيوش الهموم والأحزان على قلبك، وسكن هادئ للأسرار والودائع والأخبار.
كنتُ في غابر الأيام أسمع بفلان فَقَد أمه فصاغ فيها الدواوين والأشعار، وكنت أحسبها ضرباً من المبالغة أو الخيال، واليوم كتب الله لي أن أتذوقه، وأشعر به على مضض، فتقبلته على غصص، وأيقنت أنه لا بقاء لأحد في هذه الدنيا {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}.
في ليلة ليست كسائر الليالي، وفي ساعة متأخرة من ليلة الثلاثاء الموافق 21-5-1442هـ، رنَّ هاتفي -وليته لم يرن- ليخبرني بنبأ وفاة والدتي الصابرة المحتسبة: لطيفة بنت عبدالله السيف بعد أن كنتُ أنتظر خبر تحسُّنها في كل صباح، ولكن لا اعتراض على قضاء الله وقدره، والحمد لله أولاً وأخرًا. وهذه سُنة الله في الأرض باقية إلى قيام الساعة، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
أصعب ما في هذه الحياة فقد الأم، ويقين الواحد أنه لن يرى صورتها، ولن يسمع صوتها، ولن يهنأ بدعواتها.. وأشدها ألماً حين يغدو أحدنا إلى بيتها فلا يرى إلا بقايا آثارها، سجادتها ومصلاها، كرسيها وسريرها، عباءتها وحجابها، أدويتها ومستلزماتها، مكانها الذي اعتادت الجلوس فيه. كل شيء يذكّرك بها، حتى شعراتها المتساقطة الخفية تذكّرك بها!
البيت بأكمله أصبح لا معنى له بعد فقدِ من كانت تملأ أرجاءه بالدعوات، وتمطره بوابل العطايا والهبات. كيف لا يحزن المرء على فقد من كانت باباً للجنة ببرها والإحسان إليها؟ هذا إياس بن معاوية يبكي عند وفاة والدته، فيُسأل عن ذلك فيقول: (كيف لا أبكي وقد أغلق عني باب من أبواب الجنة)؟
رحلت أمي، وتركت إرثاً تربوياً وذكراً حسناً، لا ينقطع، كيف لا وهي المرأة التي ابتُليت فصبرت، ولم تجزع أو تتضجر أو تتململ. عانت من الآلام والأوجاع أشدها، ومع ذلك كانت صابرة محتسبة، ترجو ما عند الله من الأجر والثواب دون سواه. سنوات من الأمراض التي تهاجمها (سكر، ضغط، ضعف في عضلات القلب)، وأقدام متورمة لا تكاد تطأ عليها، ومع ذلك لسانها لاهج بالشكر والثناء لله سبحانه. وهذه والله من أعظم منازل الشاكرين، وبها -برحمة الله- ستطأ الجنة مع الصابرين المحتسبين {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}. لم أعهد عنها أنها تركت قيام الليل، لا في سفر ولا في حضر، ولا حتى في مرضها.. توقظ أبي، وتحثه على الصلاة آخر الليل رجاء أن تنالها رحمة ربي سبحانه كما جاء في الحديث (رَحِمَ اللَّهُ امَرَأَةً قَامت مِن اللَّيْلِ فَصلَّتْ، وأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا..) الحديث.
فُجعتْ بوفاة أخي قبل خمسة أشهر -رحمه الله- فحزنت حزناً عظيماً، وكأنها لم ترزق من البنين إلا هو رحمة وحنانًا وعطفًا ووفاء، حتى أخذ الحزن منها مبلغه؛ فعافت الطعام والشراب، وزادت معها الأسقام والأوجاع، وكانت دومًا تردد (اللهم اجمعني به عن قريب في جناتك جنات النعيم). ونسأل المولى أن يجمعنا بهم وبنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في مستقر رحمته مع النبيين والصديقين والشهداء، وحَسُن أولئك رفيقًا.
لقد تركت أمي إرثاً تربوياً لا يمكن لجامعة مهما بلغت من العلم منتهاه أن تقدمه أو تحققه، ولا لمختص مهما بلغ من الدرجات العلمية مبلغه أن يقدمه في درس أو محاضرة، قَصُر الزمان أو بَعُد!!
ربتنا والدتي الغالية على الخوف من الله -عز وجل- في سرنا وعلننا، وعلى أداء الصلاة في وقتها مع الجماعة، وحين كان أبي مؤذناً يخرج إلى المسجد قبل الأذان كانت هي من تتولى إخراجنا إلى المسجد، وحثنا عليها، بل كانت رغم حنانها وعطفها تؤثر أن نصلي الفجر جماعة حتى مع اشتداد البرد، بل تقف على رؤوسنا فردًا فردًا، وتوقظنا إلى الصلاة بعبارات تنضح دعاء بالصلاح والإعانة والترغيب الممزوج بالحنان والرأفة حتى نشأنا على حب الصلاة، وعدم التخلف عنها في كِبَرنا. وكثيرًا ما كان يثني عليها إمام المسجد آنذاك -رحمه الله- لحسن صنيعها مع أبنائها. أما حلقات القرآن وحثنا عليها فلها في ذلك شأن عجيب؛ فهي عندها من الأولويات المقدمة، ودائمًا ما تحثنا على حفظ القرآن، وتشجع على ذلك بالهبات والأعطيات، حتى أتم إخوتي حفظ كتاب الله -ولله الحمد- وصدق من قال:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبًا طيب الأعراق
كانت دائمًا ما تحثنا على صلة الأرحام، وتسألنا دائمًا: هل زرتم عمتكم؟ عمكم؟ خالكم؟ خالتكم؟ أختكم..
تنهر كل من يتكلم عندها بغيبة أو نميمة، وتوجهنا إلى الكلام الطيب -رحمها الله-. لديها من الحنان والعطف والشفقة ما وسع العائلة بأكملها. وتجلى ذلك في التفافهم حولها، والأنس برؤيتها، وسؤالها عن صغيرهم قبل كبيرهم، ودعائها لهم بالصلاح والعفاف والستر والكفاف.
إنها باختصار شمعة الدار التي انطفأت بموتها، وسراجه الذي اختفى ضوؤه برحيلها، ولكن حسبنا من ذلك أنها من النساء الصالحات المحتسبات الصابرات التي آثرت الآخرة على الدنيا، وكانت دومًا ما تردد بلغتها الدارجة (الله لا يبحل بي) أي لا تجعلني عبئًا على أحد بمرضي حتى لا يشقى ويتعب مَن حولي. وفعلاً تحقق لها ما دعت به؛ فلم تمكث في العناية سوى ليلتين فقط، وتوفاها الله سبحانه.
لست هنا أعدد مآثرها أو فضائلها؛ فذلك يحتاج إلى أن تؤلَّف فيه فصول كتاب، لا أن تُسرد في مقال، ولكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق.
حسبنا وعزاؤنا في والدتي ذاك الثناء العطر الذي دوّت به ألسن المعزين والمواسين والشاهدين لجنازتها.. ولعل ذلك من عاجل بشرى المؤمن كما جاء في الحديث الصحيح أن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وجبت)، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً فقال: (وجبت). فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: ما وجبت؟ قال: (هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار. أنتم شهداء الله في الأرض).
مما يسلي مصابنا، ويخفف لوعة الفراق، ذاك الوجه الذي مُلئ بشاشة وإشراقًا، وكأنه لم يصبها وخز إبرة أو مشرط طبيب، وجه يشع نضارة وبشرًا وسرورًا.. ونسأله أن تكون في أخراها من الناظرين النضرين المبتهجين المسرورين.
رحم الله روحاً احتضنتها التربة.. رحم الله جسداً أحاط به الكفن، رحم الله امرأة كانت على ظهر هذه الأرض ثم رحلت لم يشتك منها بشر.
صعب عليّ التعبير.. وضاعت الكلمات.. وجف القلم.. ووقفت خلف عتبات الألم صامتًا مذهولاً مكسورًا، ليس بوسعي أن أفعل شيئاً سوى أن أدعو لك بأن يبدلك داراً خيراً من دارك.. وأن يثبت لسانك عند السؤال، ويجعلك من أهل الفردوس الأعلى.. لو كان لي من الأمر شيء لمنحتك عافيتي، وأعطيتك من عمري، ولأبقيتك في أحضان أحبابك طول العمر، لا تشتكين هماً ولا ألماً.. كم هو صعب علينا فراقك.. انقطع حبل الوصل بيننا وبينك.. غابت تلك الابتسامات الفاتنة.. وتوقفت نبضات قلب مليء بالحب والرحمة، يكسوه الطيبة والنقاء.. رحلتِ من أمام عيني، وما زال حضورك في قلبي.. طيفك يعانق ذاكرتي.. يدك ممدودة دوماً بالعطاء بيضاء في تقديم الخير. رحلتِ بصمت.. رحلتِ من بين يدينا، ولم يبق سوى الأثر.. رحلتِ عن أعيننا ولم يبق بعد رحيلك سوى ذكراك والخيال.. رحلتِ وما زال حبل الوصل ممدودًا بيني وبينك بالدعاء بأن يجعل قبرك روضة من رياض الجنان، وأن يجمعنا بك في أعالي الجنان، إنه هو الكريم المنان.
** **
د. فهد بن أحمد النغيمش - أستاذ التربية بجامعة المجمعة