د.سالم الكتبي
على الرغم من أن الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن يحرص على تأكيد نواياه بشأن عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي، فإن ملالي إيران، وبدلاً من إظهار نوايا إيجابية ورغبة متبادلة للتفاهم والحوار، على الأقل لتفويت أي فرصة للتصعيد العسكري ضدهم، يتعمدون إحراج إدارة الرئيس الجديد ويضعونها في موقف صعب بإظهار التحدي من خلال إعلان زيادة معدلات تخصيب اليورانيوم، حيث أكد علي أكبر صالحي رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، أن بلاده تنتج حالياً 17 إلى 20 غراماً من اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المئة كل ساعة في محطة «فوردو» النووية، وذلك بعدما أعلن المتحدث باسم منظمة الطاقة الذرية الإيرانية بهروز كمالوندي عن إنتاج أول كمية من اليورانيوم المخصب بدرجة 20 بالمئة في تلك المحطة.
اللافت أن الموقف الدولي يتعامل باستخفاف واضح إزاء الانتهاك الإيراني لبنود الاتفاق النووي، الذي تراه القوى الكبرى الموقعة عليه إطاراً حتمياً للتعامل مع خطر البرنامج النووي الإيراني، حيث عبّرت المفوضية الأوروبية عن أسفها لاستئناف إيران تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 بالمئة في منشأة نووية تحت الأرض، لكنها عبرت عن اعتقادها أن الاتفاق النووي جدير بالحفاظ عليه، حيث قال متحدث باسم المفوضية الأوروبية: «نحن قلقون للغاية من الإجراءات التي تتخذها إيران. هذا العمل ينتهك التزامات إيران النووية وسيكون له تداعيات خطيرة»، وأضاف «إنه أمر مؤسف لكن من المهم للغاية كذلك أن نحافظ على الاتفاق».
والحقيقة أن التهديد الإيراني المتواصل لا يمثل مشكلة للولايات المتحدة فحسب، بل هو معضلة للأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي، وأنه لا أحد يفهم كيف يمكن ادعاء الحفاظ على اتفاق يتم انتهاك بنوده علناً وبشكل رسمي، وكيف يمكن للثلاثي الأوروبي (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) الموقع على هذا الاتفاق الاكتفاء بالتعبير عن القلق إزاء الانتهاكات الإيرانية من دون التلويح بأي إجراءات أو قرارات عقابية في مواجهة هذا التحدي الإيراني لبقية الدول الموقعة على الاتفاق.
من المفهوم أن إعلان ملالي إيران رسمياً انتهاك الاتفاق النووي قد يكون جزءاً من حملة حفظ ماء وجه النظام في ظل غياب أي هامش مناورة ـ ولو محدود ـ للرد على الضربات التي تلقاها الملالي في الآونة الأخيرة، وقد يكون محاولة لتعزيز الموقف التفاوضي الإيراني والضغط على إدارة الرئيس بايدن كي تسرع توقيت اتخاذ قرار العودة الأمريكية للاتفاق النووي، الذي انسحب منه الرئيس دونالد ترامب في منتصف عام 2018.
المنطق يقول إن الملالي يدركون جيداً أن تطوير برنامج تسلح نووي يمثل خطاً أحمر للقوى الدولية الكبرى وكذلك دول المنطقة ـ بما في ذلك دول مجلس التعاون وإسرائيل ـ، وبالتالي فإن هذه الخروقات المتوالية تمثل خطوة موجهة ضد الجميع، وليست ضد الولايات المتحدة فقط. وبالتالي فإن هذا التحدي الإيراني يستحق وقفة جادة من جميع القوى الكبرى الموقعة على الاتفاق (بما في ذلك الصين وروسيا)، لأن الأمر هنا يتعلق بالتزام إيران بمسؤولياتها في المعاهدات والاتفاقات الدولية، فمن خلال هذا الإعلان عاد نظام الملالي رسمياً إلى معدلات التخصيب التي سبقت توقيع الاتفاق عام 2015، رغم أن الاتفاق يلزم الملالي بعدم زيادة معدلات تخصيب اليورانيوم عن 3.67 في المئة .
المنطق يقول أيضاً إن تحول ملف التهديدات الإيرانية إلى ورقة شد وجذب وملف خلافي بين القوى الكبرى يمثل فشلاً للجميع وخسارة لهم؛ لأن الملالي يستغلون الثغرات القائمة بين المواقف الدولية، والمترتبة على هذه الخلافات في المضي قدماً في تحدي العالم، لذا فإن من الضروري بناء استراتيجية دولية جماعية محكمة للتعامل مع الخطر الإيراني، وأن يتلقى الملالي رسالة واحدة بصوت واحد يتصدى لهذه الانتهاكات السافرة.
شخصياً، لدي قناعة بأن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي قد فضح جوانب الضعف ومحدودية القدرات التي تعانيها بقية أطراف النظام العالمي في السيطرة على مصادر التهديد، وعلينا أن نقر بأن الأمر هنا لا يتعلق برغبة هذه الأطراف في تحدي الولايات المتحدة ـ شأنها في ذلك شأن نظام الملالي ـ لأنه لو سلمنا بأن الصين وروسيا لا ترغبان في الصدام مع الملالي فيما يتعلق بملفهم النووي، فإن الثلاثي الأوروبي لديه نفس وجهة النظر الأمريكية المتعلقة بمستوى الخطر والتهديد الإيراني، ولكن حدث تباين مع إدارة الرئيس ترامب على المستوى التكتيكي في كيفية التصدي لهذا التهديد، وبالتالي كان يفترض أن يثبت هذا الثلاثي ـ في ظل غياب الطرف الأمريكي وانسحابه من الاتفاق ـ قدرته على لجم الاندفاع النووي الإيراني عبر أدوات وآليات وتكتيكات أخرى بخلاف مسألة الانسحاب، ولكن ما حدث فعلياً أن الموقف الأوروبي ـ تحديداً ـ بدا عاجزاً ومشلولاً وغير قادر على تبني أي إجراءات فاعلة للسيطرة على جموح الملالي، واثبات فشل نظرية الرئيس ترامب الانسحابية وإظهار فاعلية أي أدوات أخرى لم تلجأ إليها واشنطن في التعاطي مع التهديد الإيراني.
الشواهد تقول إن إدارة الرئيس بايدن ستتبنى استراتيجية مغايرة تعتمد تماماً على «الجزرة» من دون «العصا»، أي باللجوء إلى الخيار الدبلوماسي في احتواء التهديد الإيراني، وهذا ما ألمح إليه ضمناً جيك سوليفان مستشار الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن للأمن القومي، الذي قال مؤخراً إن اغتيال الجنرال قاسم سليماني لم يجعل الولايات المتحدة ومصالحها أكثر أمناً مثلما تدعي إدارة الرئيس ترامب، وشدد على أن «الاستراتيجية التي تركز بشكل كبير على جانب واحد فقط من القوة الأمريكية، وتضع الدبلوماسية جانباً، بشكل كامل، ليست الاستراتيجية التي ستنتهي إلى تحقيق الأهداف الاستراتيجية التي تريد الولايات المتحدة تحقيقها»؛ وهذا الأمر يمثل هدراً لنتائج الاستراتيجية الأمريكية المتبعة خلال السنوات الأربع الفائتة، وسيمنح الملالي إحساساً زائفاً بالنصر والتراجع الأمريكي، ومن ثم سينعكس هذا الأمر على أي مفاوضات محتملة معهم، حيث سيزداد التشدد والرغبة في انتزاع التنازلات لعلمهم يقيناً أن إدارة الرئيس بايدن لا تمتلك سوى استراتيجية وحيدة للتعامل معهم، وليس لديها أي نية لاستبدال «الجزرة» بـ «العصا»!
سلوك وممارسات الملالي باتت تمثل معضلة متفاقمة وتحدياً معقداً للإرادة الدولية، ويجب على جميع القوى الدولية النظر للأمر من منظور شمولي واقعي، كونه ليس لا يمثل أزمة أمريكية بل هو أزمة عالمية، ربما تؤثر في مصالح قوى دولية أخرى بدرجة أكبر من المصالح الاستراتيجية الأمريكية، وعلى إدارة الرئيس بايدن أن تبعث برد أقوى للملالي، الذين يختبرون نواياها من خلال رسالة في التوقيت الخاطئ.