عبدالوهاب الفايز
عندما طارت الركبان الجديدة بخبر افتتاح الحدود الخليجية، وهي مقدمة مشروع عودة الأمور إلى طبيعتها، أو كما وصفها وزير خارجية قطر الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني (عودة الوضع الطبيعي وانتهاء الاستثنائي)، هذا الخبر أول من حلَّق به فرحاً ذلك الطفل القطري الذي انتشر مقطعه في البيوت الخليجية، وقد اختصرت مشاعر فرح هذا الصغير بعمره والكبير بقلبه مشاعر الناس في كل بيت خليجي يعي ويؤمن أهله بوحدة المصير، وبخطورة الفرقة والخلافات.
تحسس هذه المخاطر والاستعداد لها كان هو الروح الجامعة لقمة دول مجلس التعاون الأخيرة، التاريخية والنوعية. لقد كانت قمة الإنجازات وتجاوز الخلافات ومواجهة التحديات يوم جدد القادة مسؤوليتهم التاريخية تجاه شعوبهم، حيث قدَّروا أن (التضحيات) وليس (التنازلات)، هي ضرورة المرحلة، فحينما تواجه المصالح الكبرى للشعوب الامتحان الصعب، تبرز عندئذٍ (المواقف الشجاعة) التي تتسامى على الخلافات وتنحي الصراعات.
في الكلمة الافتتاحية للقمة، ذكر سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أن القمة أقرت (بيان العلا) الذي تم (التأكيد فيه على التضامن والاستقرار الخليجي والعربي والإسلامي، وتعزيز أواصر الود والتآخي بين دولنا وشعوبنا، بما يخدم آمالها وتطلعاتها) وفي كلمته حدد المخاطر على شعوب المنطقة بالذات مخاطر المشروع الإيراني، وأكد سموه أننا (اليوم أحوج ما نكون لتوحيد جهودنا للنهوض بمنطقتنا ومواجهة التحديات التي تحيط بنا، وخاصة التهديدات التي يمثِّلها البرنامج النووي للنظام الإيراني وبرنامجه للصواريخ الباليستية ومشاريعه التخريبية الهدامة التي يتبناها وكلاؤه).
واستحضر سموه في الكلمة المهمة أهمية الرؤية التي وضعها المؤسسون لمسيرة التعاون فقد (تم تأسيس هذا الكيان استناداً إلى ما يربط بين دولنا من علاقة خاصة وقواسم مشتركة متمثلة بأواصر العقيدة والقربى والمصير المشترك بين شعوبنا). وحتى تكون الروح الجامعة الجديدة التي نتطلع إليها ملبية لطموحات شعوب المنطقة وتنطلق من علاقة الدم والمصالح المشتركة دعا سموه إلى أهمية استدراكنا جميعاً للأهداف السامية والمقومات التي بُني عليها المجلس لأجل (استكمال المسيرة، وتحقيق التكامل في جميع المجالات).
أيضاً جدد سموه التزام المملكة بدعم مسيرة التعاون الخليجي والتي تضمنتها رؤية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز (بشأن تعزيز التكامل بين دول المجلس، التي وافق عليها المجلس الأعلى في الدورة السادسة والثلاثين، وما أحرزته من تقدم لتنفيذ مضامينها خلال الأعوام الماضية، ونؤكد على أهمية مضاعفة الجهود لاستكمال ما تبقى من خطوات في سبيل تحقيق تلك الرؤية). والتزام المملكة بدعم مسيرة التعاون حاضر في كل مشاريعها الوطنية، وسمو ولي العهد أشار إلى هذا حينما أكد أن السياسية السعودية (الثابتة والمستمرة، وخططها المستقبلية ورؤيتها التنموية الطموحة «رؤية 2030» تضع في مقدمة أولوياتها مجلس تعاون خليجي موحداً وقوياً، إضافة إلى تعزيز التعاون العربي والإسلامي بما يخدم أمن واستقرار وازدهار دولنا والمنطقة).
والتأكيد على الأمن والاستقرار برز في أعمال القمة، وهذا طبيعي لأن الأمن هو هاجسنا الأكبر، فالأمن ضروري لدول الخليج والمنطقة لأن أمامها فرصة للازدهار، ولأن القيادات والحكومات أمامها الكثير من المتطلبات التي عليها إنجازها لشعوبها. المجلس أمامه فرصة لاستثمار منجزات ومكتسبات الأربعين عاماً الماضية، فما تحقق ساعد المنطقة على تجاوز حروب وتحديات كبرى، حيث تمكنت القيادات والشعوب من حماية دول المجلس من شرور المشاريع التخريبية، بالذات الربيع العربي.
التحديات والمصاعب لم تنته، فالمنطقة كانت وما زالت مطمع القوى العظمى ومجال تدخلها القوي المباشر في مصالحها، والتاريخ تدوّن وثائقه في القرن الماضي شواهد مثبتة على كل مشاريع (فرِّق تسد) لتفكيك المنطقة عبر إثارة الصراعات وتهيئة البيئة للخلافات بين الأشقاء والجيران، وهذا يجعل جميع القيادات الخليجية مسؤولة أمام شعوبها لحماية أمنها ووحدتها وحماية مكتسبات التنمية التي تحققت.
لقد رأينا في العشر السنوات الماضية كيف كانت دولنا مشغولة بالبناء والتعمير، والجوار العربي والإيراني مشغول بالصراعات والخلافات، و(البيئة الفاشلة) التي أحاطت بنا هي التي (رفعت درجة الاستشعار والتخوف على الأمن والاستقرار)، وهي التي جعلت قيادات الخليج وشعوبها ينتقلون إلى المواجهة الصريحة للدفاع عن كياناتهم ووجودهم، ونجحنا في الانتصار للظالم والمظلوم.
لقد قلت في بداية الأزمة، وفي هذه الجريدة، إن (قطر لن تذهب بعيداً وستعود للقافلة)، والحمد لله أن إحساسنا لم يخب. قطر عادت بإرادتها وقناعاتها وبكرامتها، وستكون الطاقة المتجدِّدة لحماية مصالح أشقائها.. رغم أنف المشككين والمتربصين وتجار الشنطة المتكسِّبين والموقدين لنيران الخلافات!