علي الخزيم
كانت الظروف البيئية بحياة قدماء العرب تدفعهم إلى شدة الإحاطة بالمضارب والمراعي ومراتع الإبل وبقية الماشية والبهائم، فالشرف والعفة وحماية الديار والذمار عناصر ومقومات جعلها العربي بين عينيه لا تغيب، يحرسها بكل حواسه وجوارحه، فإذا ما شعر بأن جماعة تجاوزت إليه حدوده المكانية أو المعنوية؛ يتم الدفاع عنها بالتفاهم والصلح والوساطة قبل اللجوء كُرهاً للقوة من قبل فرسان القبيلة، ولهم في كل مرحلة من تلك المراحل نُظُم وقواعد وأسس تبنى عليها خطوات الوساطة والتصالح ومن ثم الاتفاق على مبادئ يأنف كريم الأصل عن التقصير بشأنها، ولا يجرؤ على مخالفتها أو نبذها لئلا يوصم بالغدر والخيانة، وهي عندهم - وما زالت - من صفات الخسة واللؤم والصَّغار.
ولا يأنف العربي منذ القدم من التقدم للوساطة والمصالحة بين طرفين، كما أنه لا يتكبّر عن ذلك إن كان أحد الطرفين، بل إنها من شيم الكبار الذين يبادرون لتقبلها من العقلاء الحكماء الجادين المخلصين في هذا الاتجاه، ويزيدون بأن يرحبوا بها مقدمين بعض التنازلات عن مطالبهم ولو على مضض في سبيل درء الفتنة ومنعاً للشقاق بين الإخوة والأقارب وروابط العروبة والدين والدم، وهذا مما يبرهن على صفاء النفس وعلو الهمة وأخلاق الفرسان، ولم يعرف بتاريخ العرب من ناله لوم أو قدح أو تحقير بسبب قبوله الصلح والوساطة، وإن كان قد حدث فبلا شك فإنه صادر عن مبتلى بقصور الفهم والوعي، ضميره غائب عن تقدير عواقب الأمور، وحساباته تقتصر على مصالحه الشخصية الآنية، فمثل ذاك استثناء لا يعتد برأيه وإن أسهب وأطنب.
والوفاء من أعلى مراتب الرجال التي تَعْتَدّ بها العرب؛ ولا يبلغها عندهم سوى من تشبَّعت بها مشاعره تجاه الغير قولاً وعملاً في تعاملاته وعلاقاته مع الأفراد والجماعات فترتفع قيمته عند أهله وعشيرته، ثم يذيع صِيته بين القبائل لينال عندها درجة الحكيم الخبير بصروف الزمان وتبدل الأحوال وخلجات الأنفس ليكون مؤهلاً لمقام الحَكَم وعاقد رايات التصالح بينهم، ولم يكن العرب قديماً بغالب أحوالهم يكتبون بنود الاتفاقيات والأحلاف والتبادل التجاري؛ ويعتمدون على صدق الكلمة وشيمة الوعد والعهد الذي يكتسب موثوقيته عندهم من حرصهم على الوفاء به، ونبذهم لكل مُخِلّ به ومخالف لأعرافهم بهذا الشأن، ولأن كل من نقض عهداً أو أخلف وعداً قطعه يُعَرِّضه للازدراء والانتقاص، واشتهر كثير من العرب على مر التاريخ بصدق الوفاء والثبات على العهد، والحديث عمَّن اشتهر منهم إنما يورده المؤرِّخون كأمثلة لا حصراً عليهم؛ فشيمة العرب كلهم الوفاء بصفة عامة إلا من استثنى نفسه، إذ يقول زُهير بن أبي سُلْمى المُزَنِي أحد أشهر شعراء العرب وحكيم الشعراء قبل الإسلام:
(وإمَّا أن يقولوا قد وَفَينا
بذِمَّتنا فعادتُنا الوَفاءُ)
ويحث على الوفاء فيقول:
(ومن يُوفِ لا يُذمَم ومن يُهدَ قلبُه
إلى مُطمَئنِّ البرِّ لا يتجَمجمِ)
ويرمز لرجال العزم والحزم والوفاء بهذا البيت:
(فَضَّلَهُ فَوقَ أَقوامٍ وَمَجَّدَهُ
ما لَم يَنالوا وَإِن جادوا وَإِن كَرُموا)!