د. حسن بن فهد الهويمل
العبرة في النص القرآني عموم الدلالة، لا خصوص اللفظ. ذلك قول الأصوليين. فكل متشيطن في عمله هو شيطان مريد، سواء أكان من الإنس أم من الجن: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون}.
هذه الآية كأنها تتنزل للتو، لأنها تنبه إلى وباء الإعلام المعاصر: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون}. والافتراء قول مقصود. ذلكم هو الإعلام العميل المحكك، الذي حل محل الحرب بالسلاح، وفعل فعله المردي.
إنها حربٌ إعلامية منظمة تملأ ما بين السماء، والأرض، وتنطلق من قنوات الفحش، والمنكر. ومواقع الافتراء، والفجور، وكلها تسارع في تشكيل الوعي المزيّف، لمن يعدون أنفسهم من النخب الأخيار، وما هم منهم في شيء.
شياطين الإنس أشد خطراً على الأمة من شياطين الجن، ومن ذا الذي لا يتصور فعلهم المؤذي، وتجنيهم المؤلم، واحتناكهم فلول البشر.
دعاة السوء شياطين، وإن كانوا من الإنس. والمفترون للكذب شياطين، وإن أقسموا لك بالصدق. والمثيرون للفتن شياطين، وإن ادّعوا الحرية، والإصلاح. والمتصيدون للمتشابه شياطين، وإن قصَّروا ثيابهم، ووفَّروا لحاهم. وعبدة الأهواء شياطين. والمجاهرون بالمعاصي شياطين لأنهم جميعاً يخالفون أمر الله، ويشيعون الخنا.
يكونون شياطين بذاتهم، ويكونون شياطين بمؤازرة شياطين الجن.
هذه الفتن العمياء التي تعم أرجاء الوطن العربي خاصة، والعالم الثالثي على وجه العموم، من يثيرها، وهذا القتل، والتشريد، والتخويف، والتعذيب من يقترفه، وهذه الفوضى الدموية الهدامة من ينفذها، ويشيعها، ويوقد نارها. إنهم بشر نزع الله من قلوبهم الرحمة، وزيَّن لهم أعمالهم، وأضلَّها.
بشر مثلنا، نراهم رأي العين، ونَعْرفهم بسيماهم، ومن لحن القول، وما تخفي صدورهم من أحقاد، وضغائن أكبر، {قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون}.
وضْعُ أمتنا المأزوم من صنع بشر متلوِّنين، ولكنهم تشيطنوا، وفقدوا إنسانيتهم: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}. هذا خبر مؤكد الصحة من الله، وأمر ملزم من الله: {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُون}.
آيات تخبر بعداوة الشيطان، وأوامر باجتنابه.
نحن نكره الشيطان الحقيقي، ونستعيذ منه في سكناتنا، وحركاتنا. ولم نكن كذلك مع شياطين الإنس، بل قد نقبلهم، ونحبهم، ونتلطف معهم، ونركن إليهم، ونؤويهم، وندعمهم، مع أنهم أخطر من شياطين الجن.
الشيطنة تعني التمرد على قوانين الحياة السوية، سواء جاءت بوحي، أو ناتج تجارب. كل الحضارات لها آدابها السلوكية، وأخلاقياتها، وليس هناك شر محض إلا في عالم شياطين الجن، كما أنه ليس هناك خير محض إلا في عالم الملائكة.
الأخطر حين تتقمّص بعض (الدول) أردية الشيطان، وتسعى في الفساد، تخيف، وتدمر، وتشتت، وتصدر ضلالاتها، وطائفيتها، وتدّعي أنها تصلح الشأن العربي، وتقوّي لحمته، وما هي إلا شر مستطير، تتلذَّذ بالإيذاء، وتصبح الشيطنة طبعاً لا تطبعاً، كل همها مصروف لتنويع الشرور.
هذه الشيطنة البشرية تخادع المغفلين، وتزيِّن لهم سوء العمل.
لو وعت أمتنا واقعها، وعرفت أعداءها من أصدقائها، لما بلغت الدرك الأسفل من الهوان، والذل، والضعة.
إننا أمام شواهد لا يمكن تجاهلها، هذه الشواهد تؤكد أن الأمة بحاجة إلى الوعي، لإيقاف التدهور المخيف.
ولن يتأتى ذلك إلا بوعي الواقع، ومعرفة المفسدين، والتعامل بحذر شديد، وتدبير حصيف.
فما عاد بالإمكان تجاهل الواقع الذي فرض نفسه، وكرَّس وجوده، وتظافرت جهود الشياطين على حمايته، بوصفه ناتج جهاد مرير، خاضته دول الاستكبار، والاستبداد منذ الحروب الصليبية. وهي على عهد، ووعد بأن تحافظ عليه لتضمن التخلف، والضعف، والتشرذم للأمة العربية، والعالم الثالثي.
نسأل الله الرشاد، والسداد، ووعي الذات، والواقع، والتصرف بحكمة، وأناة، ومواجهة القدر بصبر، ومصابرة، واحتساب.