بعض الأماكن ملهمة بطبيعتها، جاذبة بما حباها الله تعالى من مكونات طبيعية، فكيف بمن أبصر الحياة بين جبالها ورمالها، بين آثارها وتراثها، من عاش تفاصيل حضاراتها من خلال شواهد تركتها أيديهم في مختلف اتجاهات حدودها، ولم تعبث بها الأيدي لتفقدها أهميتها وإن تعرضت لشيء من ذلك، من قبل الميلاد إلى وجهة للبلاد.
ولم يكن يدُر في بال أبنائها الذين استخدموا أحجارها الصغيرة لصنع ألعاباً لهم، ولا من جبالها (مقيال) ورمالها جلسات سمر قبل أن تضيئها الكهرباء، أن تكون كما هي عليه اليوم، ولم يتوقع ابنها بأن يودعها مواصلاً تعليمه العالي وباحثاً عن فرصة عمل، بأن تصحبه ملهمة له في رحاب الجامعات الدولية لتكون حقلاً لدراسته.
مرت الأربعون سريعاً حينما بدأت من عاصمة الآثار والتاريخ ومهد الحضارات وطرق التجارة القديمة وطرق الحج واكتملت في حضرة تاريخها في إنجلترا.
هذه المقدمة هي قصة العلا مع ابنها، وليس هو الوحيد فحسب، فقد سبقه العديد من أبناء العلا ممن درسوا آثارها وشربوا رحيق حضارتها، ولكن، ما تشاهده اليوم من تحول في وضع آثار العلا وتراثها على خارطة المدن الدولية، لتضيف إلى حضاراتها السابقة حضارة سعودية حديثة، تعكس الاهتمام الكبير من حكومة المملكة العربية السعودية بالتراث الوطني، وتنميته وتطويره والاستفادة منه في تعزيز الناتج المحلّي، وخلق نقطة تواصل ثقافي بين المملكة ودول العالم، يجعل الارتباط الروحي بالمكان في أبهى صورة.
كانت أولى محطات التعليم في درجة البكالوريوس في شمال مقاطعة ويلز بالمملكة المتحدة، وتحديداً عندما حصلت على موافقة أساتذتي بتطبيق المشاريع الدراسية على التراث العالمي السعودي بدءًا بموقع الحجر الأثري، الذي أجبرت لاحقاً من قبل مشرفتي الدراسية على أن تكون رسالة التخرج عن الحجر كأول موقع تراث عالمي سعودي مسجل في اليونسكو، ليلحق بالرسالة معرض فوتوغرافي شخصي عن الموقع والذي لا تزال تحتفظ به جامعة بانجور في مبناها الرئيسي، وتنتهي الرحلة بأطروحة الماجستير التي وضعت ابن العلا كأول طالب سعودي يحصل على درجة الماجستير بجدارة في إدارة الفنون والتراث الثقافي في جامعة شيفيلد إحدى أعرق الجامعات البريطانية والتي أخذت التراث الثقافي والطبيعي للعلا محوراً رئيساً لدراسته كمورد اقتصادي عبر نافذة السياحة.
ليس هذا فحسب، فقد أصبحت العلا بعد رؤية صاحب السمو الملكي ولي العهد مجالاً خصباً لكل كاتب في أي مجال، وأصحاب المواهب الفنية بمختلف أنواعها، وما شهدته من قمة خليجية جمعت فيه شمل الخليج العربي، بمزيج من الحداثة العمراني والتراث الطبيعي جعل العلا حديث الساحة فعلاً، فما تملكه العلا من مكونات ثقافية وكنوز لا تزال بكراً وواعدة في مستقبل زاهر يأسس تجربة إدارية استثنائية في إدارة المدن واستثمارها، وموقعها الإستراتيجي سابقاً يرفع سقف تنميتها حاضراً لقربها من مدينة المستقبل نيوم والبحر الأحمر من جهة أخرى وجسر العبور إلى مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، ونعوّل على حقل التنمية كشبكة عنكبويتة في العلا بتحقيق ذلك.
اسم العلا بذاته باعث أمل وطموح، وستبقى العلا في العلا.
** **
- مرضي الخمعلي