م. بدر بن ناصر الحمدان
على الرغم من وصف ابن خلدون: « أن عمران البادية ناقص عن عمران الحواضر؛ لأن الأمور الضرورية في العمران ليست كلها موجودة لأهل البدو»، إلا أن إنسان الصحراء أثبت قدرته الكبيرة على التعايش مع الطبيعة، خاصة ممن سكنوا «الْبَادِيَةِ» و»الخَلاَءُ»، بعيداً عن العمران ومكوناته من قرى ومدن ومزارع وأماكن مأهولة، وعلى الرغم من قسوة ظروف المكان والطقس والمناخ وتضاريس الأرض، إلا أن ذلك الإنسان «البَدَويّ» قدم تجربة فريدة في بناء محيطه العمراني «المنقول»، والتعامل معه وفق مفهوم «عمارة الأرض» حتى لو كان ذلك استيطاناً مؤقتاً.
فهم الطبيعة والاستجابة لمحدداتها، كان محور التفوق، والعنصر الرئيس في نجاح العمارة البدوية، من خلال الالتزام بالقواعد الرئيسة في اختيار وتحديد موقع التجمع العمراني؛ بما يكفل تحقيق متطلبات المخطط العام (المستوى الأول)، سواء كان ذلك فيما يتعلق باتجاه الرياح أو حركة دوران الشمس أو المناطق الآمنة من عوامل الطبيعة أو القرب من مصادر المياه والمراعي، وفوق ذلك مراعاة العلاقة مع النسيج الاجتماعي المحيط، لقد كانت القدرة على تطبيق هذه المعايير التخطيطية تنم عن مستوى عال من التنبؤ بتفاعلات المكان كناتج خبرة وتجربة تراكمية.
المستوى الثاني من عمارة البادية (المخطط التفصيلي) ويظهر هو الآخر على هيئة سياسات عمرانية تمثلها أنماط انتشار بيوت الشعر والخيام ومواقع الإبل والماشية والخيل وفق تصنيفاتها المختلفة وأوزانها النسبية، ودورها في تشكيل منظومة الوظائف العمرانية، إذ إن توزيعها وتحديد المسافات بينها واتجاهاتها وحجم مجموعاتها يعتمد بشكل رئيس على التشريعات المتعارف عليها في نظام مضارب البادية، والتي عادة ما تكون باعتماد شيخ القبيلة أو عميدها وفق اعتبارات اجتماعية واقتصادية وسياسية داخل التجمع نفسه.
وحدة البناء السكنية الرئيسة (الخيمة أو بيت الشعر) تمثل المستوى الثالث من عمران البادية، وفيها تجسيد واضح لمهارات الإنسان البدوي وإتقانه لحرفة البناء والنسيج والحياكة والاستثمار الأمثل لشعر وصوف ووبر وجلود الأنعام، وباختلاف ثقافة البدو يختلف أسلوب تصميم واستخدام هذا المأوى المتنقل والذي عادة لا يخرج عن قسمين أحدهما للرجال والآخر للنساء، مع تنوع تفاصيل الاستخدام الداخلي لها ومنافعه الملحقة به وفقاً للاحتياج والمتطلبات اليومية، كما أن الحالة الاقتصادية تتحكم بجودة وتقنيات بناء هذه الوحدة التي تمثل أحد أهم الأصول التي يمتلكها الإنسان البدوي.
التمعن في الآية الكريمة: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلى حِينٍ}، يمنح عمارة البادية مساحة كبيرة لمزيد من البحث والدراسة والتقصي والاهتمام، فهي تعبير مباشر عن تراث الصحراء ومصدر رئيس لاستلهام المبادئ المعمارية والعمرانية التي يمكن استثمارها في بناء مدن تحترم الطبيعة وتتفاعل معها، وتكون أكثر ملاءمة للإنسان.