كلما أغمد سيف وهوى علم وجف قلم أثار في النفس حزناً، فكل جيل يبكي على من سبقه بالرحيل، ويحس بالنقص بفقد الأفذاذ، ولا يعوضه أي ملاذ،
وكما قيل:
فالأرض تحيا إذا ما عاش عالمها
متى يمت عالم منها يمت طرف
فالنقص يحدث في الأجيال جيلاً بعد جيل، والنقص يكون في أعمارهم وأحلامهم وأخلاقهم، كما قاله ابن عمر رضي الله عنه.
فليت النقص في الأعمار يكفي
ولكن نقص أخلاق وعقل
ولقد حزنت على فقد رفيق والدي الكريم الشيخ محمد بن عبدالله بن ناشع الشهري حينما وصلني نبأ وفاته رحمه الله، وحزن عليه الكثير، فما جالسه أحد إلا أحبه وأعجب به، لا يخلو الجلوس معه من فوائد وليست فائدة، وسواء كان الجلوس في بيت أو طريق، حديثه في المجالس كله علم، يتنقل بالجالسين في بساتين العلوم والمعارف، فمرة في الفقه، ومرة في السنة، ومرة في التاريخ والأنساب وما أكثرها، ومرة في السير، ومرة في جغرافيا العالم، ومرة في اللغة والأدب، وكم شنف أسماعنا بعيون القصائد، من قصائده أو قصائد غيره من الشعراء، إذا تحدث فكأنما ينظم نظماً، ويقول شعراً، وهو مع ذلك لا يستأثر بالحديث في المجالس، يحترم الجالسين وينصت للصغير والكبير، كان مدرسة في الأدب والتعامل، فما أجمل مجلسه وما ألذه.
منذ أول لقاء به في منزل والدي حفظه الله، قبل ما يقارب الثلاثين عاماً، وهو يثير الدهشة بحافظته القوية، ويملأ المجلس بالعلم والمذاكرة، فصبيحة ذلك اليوم وعند أول جلوس معه لم تنته الجلسة إلا وامتد تباحثه مع الوالد حول حديث نبوي في المجلس حتى انتقلوا لمكتبة الوالد، وكانت مقابلة للمجلس، كان إذا استشهد بآية فيذكر رقمها و السورة التي هي فيها، إذا نقل عن كتاب فيذكر الجزء والصفحة وربما السطر، وكل هذا بدون تكلف، ومن غير سابق إعداد، بل حديث مجالس، سيرته طويلة، وأعماله وجهوده كثيرة، لا يسع المقام للإحاطة بها.
ولد عام 1355هـ وتخرج من كلية الشريعة بالرياض عام 1388هـ، تنقل بين الرياض والحرمين الشريفين يطلب العلم وينهل منه، ولم يكفه ذلك بل خارج المملكة العربية السعودية كمصر وغيرها.
ذكر مرة أنه مكث سنتين في المسجد النبوي يحضر الدروس ويحفظ المتون، وفي هذه المدة ذكر أنه أتقن علم الفرائض على الشيخ أبي بكر الجزائري رحمه الله، وأتقن علم الفرائض حفظاً للرحبية وإتقاناً لمسائل الفرائض، وقرأ علينا من حفظه أبياتاً من الرحبية ونحن في السيارة.
مكث أكثر من خمسين عاماً في الإمامة والخطابة، وفي عمله في التعليم تدرج حتى شغل منصب مدير التعليم في النماص، وله جهود وآثار طيبة، فأنشئت مدارس بسببه غفر الله له، وبنيت مساجد بمساعيه في سبيل الخير.
تقاعد من عمله ولم يتقاعد من العلم، فهو قارئ نهم، كان من خبره رحمه الله أنه قرأ تاريخ ابن عساكر وهو ثمانون جزءًا في خمس سنوات، وقراءته قراءة فهم واستيعاب وتعليق، ويظهر ذلك من نقله عنه في حديثه.
كان يجل شيخنا العلامة صالح الفوزان حفظه الله، ويذكر أنه من شيوخه في كلية الشريعة، وأنه في أحد المحاضرات كان الحديث حول تصرف الفضولي، واستدل الشيخ بحديث عروة البارقي رضي الله عنه حينما وكله النبي صلى الله عليه وسلم بشراء شاة له، وذكر الشيخ أن البارقي نسبة إلى بارق، فسأل أحد الطلاب: أين تقع بلاد بارق؟ فأجابه الشيخ بموقعها باختصار، فاستأذن الشيخ ابن ناشع وحمد الله وأثنى عليه، ثم تكلم عن بلاد بارق بتفصيل طويل وهو لم يعد لها، فذكر سبب تسميتها والقبيلة التي حلت فيها، وذكر أنه واد وماء، وبيّن طوله وعرضه، والأودية التي تلتقي به، وارتفاعها عن سطح البحر ومقدار ارتفاع جبال السروات عنها، وذكر بعدها عن بيشة بالكيلوات ونحو ذلك، وذكر أن بارق ذكر في التاريخ القديم واستشهد بكتب مثل التيجان في تاريخ همدان، وكل معلومة من هذه المعلومات يذكر مصدرها مباشرة بالجزء والصفحة، وما إن انتهى من الحديث إلا ويقوم عريف الفصل بإحضار جميع المصادر التي ذكرها إلا التيجان فلم يجدوه في الرياض، وأرادوا التأكد واختباره في إحالاته، فوجدوا نقله صحيحاً، وتعجب الحاضرون منه.
ثم بعد سنة يتكرر الموقف مع الشيخ صالح الفوزان حفظه الله حيث ذكر الشيخ خسيلة خادمة حكيم العرب ذي الإصبع العدواني فقال الشيخ الشهري سخيلة، فقال له الشيخ الفوزان ما مرجعك يا شهري، لأنه يعرفه صاحب دقة في المعلومة، فقال: مرجعي كتاب سيرة ابن هشام، وذكر الجزء والصفحة، وقال له الشيخ: وأنا مرجعي كتاب مشكاة المصابيح، فأحضروها لنا الآن من المكتبة، قال الشيخ الشهري: فأتي بالكتابين فوجدني صادقاً وهو أصدق، ثم سأل الطلاب الشيخ صالح كيف نجمع بينها فقال: هذا تصحيف من النساخ، ونحتاج لمقابلة مخطوطتي الكتاب، وهذا لا يتيسر الآن، فاحملوها على علاتها، ثم قال له الشيخ: شكراً يا شهري ولا تعد إلى مثل هذا، يقول: لحقت شيخنا بعد المحاضرة، وسألته عن سبب نهيه، فعلمت منه أنه نهاني عن ذلك خشية علي من العين في ذكر المصادر بالأجزاء والصفحات.
حفظ الله شيخنا صالح الفوزان ورحم الله تلميذه.
وإنك لتعجب من دقة الشيخ وتلميذه في المعلومة، ويظهر في ذلك تواضع الشيخ مع تلاميذه، وفتح المجال للنقاش، والتباحث للوصول للمعلومة، ثم يرشد إلى الطريقة في علاج التصحيف، ثم تظهر شفقة الشيخ على تلميذه، حينما نهاه عن إظهار قوته في الحفظ أمام أقرانه خشية عليه.
صفات جليلة يحتاجها كل معلم ومرب قد عزت في هذا الزمان.
للشيخ محمد معرفة عميقة بالأماكن وما يجري عليها من أخبار السابقين، فسألته مرة عن قبر ابن عباس رضي الله عنه، ومن الثابت أنه مات بالطائف رضي الله عنه، ولكن سألته عن تحديد موضع قبره فيشاع بأنه موجود بالمقبرة التي بجوار مسجد العباس في الطائف، فالتفت إلي بسؤال مضاد من قال لك هذا؟ قلت: يقوله بعض الناس، فأعاد علي من قال لك هذا؟ يعطيني بذلك درساً بأن كثيراً من الآثار لا يؤخذ بما يشاع حولها، ثم أفادني بأن مثل هذه الآثار أحياناً يوضع لها تاريخ وأشخاص بلا دليل، فتسري على الناس مع مرور الزمن.
رحم الله الشيخ محمد، كان كريماً يفرح بالأضياف وإكرامهم، مجلسه مزار للوجهاء وأهل العلم والباحثين وغيرهم، ينهلون من علمه، وهو كريم حتى في العلم فلا يبخل بمعلومة أبداً على صغير أو كبير، أرى والدي الكريم والشيخ محمد يأنس بعضهما ببعض بالتذاكر في علوم الشريعة والتاريخ والأدب.
لا أنسى زيارتنا له في بيته قبيل الغروب، أردناها زيارة قصيرة على عجل للسلام عليه، ولكن لم نخرج إلا بعد أن أكرمنا بالقهوة والعشاء، ولم يفتح مجالاً للاعتذار عن الجلوس للعشاء أسأل الله أن يكرمه الجنة.
حينما جاءت شركة أوربية لإنشاء طرق في الجنوب قبل ما يقارب الخمسين سنة تقريباً ذهب للمهندس الألماني واستضافه ورفاقه، وأصر عليهم حتى أجابوا دعوته، فاستغرب المهندس منه ذلك الكرم، وسأله عن سبب إصراره على الضيافة، فأجابه بدينه وعروبته بأن هذه تعاليم ديننا وعاداتنا، وأنت رجل غريب عن البلاد، وضيف على الملك فيصل رحمه الله، وضيوفه ضيوفنا.
وقد زاره أمير منطقة عسير قبل وفاته بأكثر من عامين وجرى الحديث حول هذه القصة فأوصل في لحظتها القصة لولي العهد الأمير محمد بن سلمان وفقه الله فحمّل ولي العهد أمير المنطقة شكره شكراً جزيلاً وأثنى عليه ووعده باللقاء قريباً، وكافأه ولاة أمرنا على فعله المشرف، فجزاهم الله خير الجزاء.
وهو رحمه الله من الرجال المخلصين الأوفياء، وممن عرفوا بالولاء لولاة الأمر، يدعو لذلك ويحث عليه.
مات رحمه الله في الخامس من شهر جمادى الأولى في العام الثاني والأربعين بعد المائة والألف، وقد فقده وعزى فيه الأمراء والوجهاء والعلماء، ورثاه الأدباء والشعراء.
وإني لأدعو أبناءه البررة أن يخرجوا تراث والدهم العلمي، ويفسحوا المجال لطلاب العلم في الاستفادة من كتبه وتعليقاته على الكتب، وأن يخرجوا ديوان قصائده رحمه الله.
وبرحيله رحمه الله فقدنا مكتبة تسير على وجه الأرض، ومدرسة متنقلة، وأخلاقاً عالية، فأحسن الله عزاءنا وعزاء محبيه فيه.
** **
د. عبدالعزيز بن حمد بن سعد آل عتيق - إمام وخطيب جامع الأمير مشعل بن عبدالعزيز بعرقة