تركي بن رشود الشثري
(الإغواء أو انعدامه هو مفتاح كل مشروع نجح أو أخفق؛ فتقريبًا - وأنا هنا أزن كلماتي بدقة - كل دولار أو صوت انتخابي في أمريكا هو دولار إغراء، وصوت إغراء. غالبية الدولارات التي أُنفقت، والأصوات المدلى بها في بنغلادش، قد تعتمد على بعض التفكير الجاد الذي يتطلب استخدام المهارة والمنطق بدافع الحاجة الملحة، والاضطرار أكثر من أي شيء آخر. أما في أمريكا فلا يرافق إنفاقنا للدولارات والإدلاء بأصواتنا سوى القدر الضئيل منها؛ فالمسألة كلها عندنا تشبه لعبة ودية في يوم لطيف، ليس إلا).
هكذا يصف أستاذ علم الاجتماع بجامعة ميريلاند جون هيور الانتخابات في أمريكا في كتابه «الفردوس الأمريكي»، مع أنه كتاب وضع في نقد المجتمع الأمريكي، والواقع الاستهلاكي الإغرائي. ومع ذلك فلم تسلم السياسة الأمريكية من نظرات هذا الناقد الاجتماعي الذي وصف نفسه بقوله: (إنني أعرف الكثير عن المجتمع الأمريكي، على مستوى قد لا يتوافر للكثيرين. وقد تنبهت مؤخرًا إلى أني باعتباري أستاذًا جامعيًّا في علم الاجتماع منذ ثلاثة عقود قد جمعت حصيلة معرفية كبيرة عن أمريكا، أرى لازمًا أن أشرك فيها معي غيري).
إذًا، الانتخابات الأمريكية تشبه لعبة ودية في يوم لطيف ليس إلا. مثل هذه العبارات النقدية المركزة تحمل دلالات مكثفة لمن أراد أن يسبر غور المزاج العام للفضاء الانتخابي في أمريكا، ويفهم دوافع الناخب الأمريكي عن كثب.
كتب كثيرون عن علم نفس الانتخابات وتطورها في أمريكا. ومن أول من تناول هذا المجال بول لازرفيلد وبرنارد بيرلسون؛ إذ توصلا إلى أن التنبؤ بسلوك الناخب يمكن أن يُبنى على معرفتنا بمستواه الاقتصادي والاجتماعي. ولعل الناظر في هذه الكتابات للباحثين يرى شح النزعة النفسية فيها، ورجحان النظر الاجتماعي كمكان السكن والأوضاع الاجتماعية المتردية وغير ذلك. وجاءت نظرية (التماهي الحزبي) لتخفف من غلواء استحضار الدلائل الاجتماعية، وترفع من رصيد التحليل النفسي بناء على حزمة من النظريات التي تتناول سلوك الناخب من خلفية نفسية مركبة. يذكر آنغوس كامبل وزملاؤه من جامعة ميشيغن في كتابهم الكلاسيكي «الناخب الأمريكي» أن كثيرًا من الناخبين يطورون مع الوقت رابطة عاطفية طويلة الأمد لحزب سياسي معين في بداياتهم المراهقة، ويستمرون في التصويت لهذا الحزب مهما كانت المتغيرات، وحتى لو خسر الحزب بعض الجولات، أو قام بأداء سيئ أثناء فترة حكمه، بل ولو تبنى الحزب سياسات لا تروق لهذا المصوت كقضية الإجهاض مثلاً، ومع ذلك يستمر في دعمه، مع استحضار (الانحياز التأكيدي)؛ فيحذف العقل كل معلومة تدين الحزب أو تدين قراراته بأن يبرر أو يذكر أن هذا القرار لن يؤثر، أو أنه فقط للاستهلاك الإعلامي، ويستحضر ويركز على كل معلومة تبجل الحزب.
يعد فيليب كونفرس المتخصص في علم النفس الاجتماعي مشاركًا في كتاب «الناخب الأمريكي»، ويذكر أن الناخبين يفتقرون لما يمكن تسميته بـ»ضوابط الاتجاه»؛ إذ أظهرت المسوحات العامة التي أُجريت منذ الأربعينيات أن الناخبين العاديين من الأمريكيين ليسوا على درجة ذات بال من الاطلاع على شؤون السياسة، وأن قلة منهم تمتلك أيديولوجية واعية؛ فهم يحملون مواقف من كل مكان؛ فتجد أحدهم ليبراليًّا في قضية، ومحافظًا في أخرى من دون اتساق. وبناء على هذا سيظل الجمهوريون يصوتون للحزب الجمهوري، والديمقراطيون يصوتون للحزب الديمقراطي؛ وعليه فالتصويت هو فعل غريزي، يمارَس بحكم العادة بل الوراثة في كثير من الأحيان. ويبقى فصيل ثالث يوصف بالتقلب، وهو الفصيل غير المتماهي حزبيًّا، بل هو تابع للقضايا الراهنة، ويكون لهم تأثير في سير الانتخابات، وهم في تكاثر مع الوقت نظرًا لعمق التشابك اليوم بين صندوق الاقتراع وسعر الدولار. إننا أمام مرحلة تتجاوز التماهي النفسي، والإصرار غير المنطقي، والعقائد السياسية الصلبة. نعم، يروق للبعض هذا التفكير الرغبوي بأن يلتفت الناس شرقًا وغربًا لمصالحهم الواضحة أكثر، وأن تموت الأيديولوجيا، ولكننا نقول هذا من واقع تطورات علم النفس الانتخابي، وإفرازات الواقع الفاقعة؛ فنسبة المنتمين للحزبين الجمهوري والديمقراطي انتماءً حزبيًّا قويًّا تراجع إلى 29 % عام 1992م، بينما بلغ 38 % عام 1964م، وتكاثر من يصفون أنفسهم بالمستقلين حتى بلغوا نسبة 40 %. إنها دورة من دورات التاريخ الذي يصنع الفارق. هو من يعلم هل هذه الدورة في بدايتها أو في أفولها.