د. تنيضب الفايدي
حسب الواقع الميداني لا يوجد مثل المعلم والمعلمة في اكتناز الذكريات مع الطلاب و(الطالبات) ومستوياتهم ومناقشتها مع أولياء الأمور وتعدّد المواقف التربوية لهم، والكاتب إذا تذكر ذلك انهالت عليه الذكريات يدفع بعضها بعضاً، ومن ذلك: دخلت كلية التجارة بجامعة الرياض (الملك سعود حالياً) وأثناء ذلك بقيت معلماً في المدرسة الناصرية بباب الكومة بالمدينة المنورة وذلك قبل خمسين عاماً تقريباً، وكان زملائي - المعلمون - لا يعلمون عن هذه الكلية شيئاً ولا سيّما في تلك الفترة، وأقول لا يعلمون شيئاً لأن أغلبهم إذا سألني أين تدرس وقلت له في كلية التجارة: يقول لي تحتاج إلى رأس مال، وكنت أكرر أثناء الفسحة الكبيرة أنواع الإدارة قديماً (الديمقراطية، الأوتوقراطية، الترسّلية) وذلك حسب تخصصي في الإدارة، وكانت كلمات غريبة بالنسبة لهم، وكان بعضهم غير مرتاح ومتضايقاً من رفع صوتي وكان تكرار المعلومات على مسامعهم يزيد انزعاج بعضهم، لأنه يريد أن يستفيد من الفسحة بعد الجهد المبذول في الحصص، مما يزعج أيضاً أنني وحتى يتم الحفظ (أسمّعها) لمن هم بجواري وصدفة كنت بين شيخين كبيرين في السن، أحدهما على يميني وهو الشيخ (عبد العزيز مفلح الدوسري) رحمه الله، وكان إضافة إلى التدريس إمام مسجد، وعلى يساري الشيخ (عبد المجيد الآبادي) رحمه الله، معلم القرآن الكريم في المدرسة وله حلقة للقرآن الكريم في المسجد النبوي وكان كل منهما يعتبرني ابنه، ويدافعان عني أثناء المناوشات الكلامية خلال الفسحة وما أكثرها، ومما زاد (الطين بلّة) أنني كنت أشرح لهم معاني أنواع الإدارة رغماً عنهم، وكنت أقول لهم: وأفضلها الإدارة الديمقراطية وطبقوها على الطلاب واتركوا لهم حرية التصويت لاختيار الطالب المسؤول عن الفصل دون التوجيه من قبلكم.
وفي بداية عهد الملك خالد بن عبدالعزيز آل سعود رحمه الله دخل مجموعة من منسوبي كلية التجارة مجلس الوزراء وشعرت باعتزاز وأسعدني هذا الاختيار ولا سيّما أن بعضهم كنت أقابلهم أثناء الاختبارات وأقول لزملائي (شفتوا أهمية كلية التجارة؟).
وبعد يومين وأثناء الفسحة الكبيرة وجه أحد زملائي وكان من أولئك المعارضين لي دائماً سؤالاً: يا صاحب الإدارة (ويقصدني) سمعت البارحة الأخبار من إذاعة لندن، وقالت: إن هناك مجموعة من الوزراء التكنوقراطيين دخلوا مجلس الوزراء السعودي، فما معنى (التكنوقراط)؟ ولأول مرة أسمع هذه الكلمة ولم أستطع الإجابة، وعلق بعضهم على عدم معرفتي قائلاً: (تكرر علينا كل يوم الديمقراطية والأوتوقراطية ولا تعرف التكنوقراط) وأراد أحد الشيخين الكريمين أن يساعدني؛ لأنه رأى عجزي فقال لي ناصحاً: ابحث عنها في كتاب (لسان العرب)، فقلت له: هذه الكلمة (التكنوقراط) ولدت بعد ميلاد لسان العرب بعدة قرون، ومن ذلك اليوم التزمت الصمت (ولم أنطق ببنت شفة) ولا سيما فيما يتعلق بالإدارة وأقسامها...
.. يا ذكريات السعد عودي...