م. خالد إبراهيم الحجي
لكل دولة جانب مضيء من تاريخها، توليه الحكومات اهتمامها الشديد عن طريق توثيقه في مراكز التوثيق التاريخية، والمتاحف الوطنية المختلفة، والمحافظة على المواقع القديمة التي يزورها السائحين للاطلاع على معالم هذا الجانب المضيء، والتعرف عليه عن كثب، مثل: برج إيفل، ومتحف اللوفر، وساعة بيج بن، ومتحف لندن التاريخي، ومتحف ودارة الملك عبدالعزيز في الرياض، المتخصصة في توثيق تاريخ المؤسس الملك عبدالعزيز وأبنائه من بعده سعود، وفيصل، وخالد، وفهد، وعبد الله -رحمهم الله- وتشمل الدارة أيضاً الفترة الراهنة التي تعيشها المملكة في ظل قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان والأمير محمد بن سلمان ولي العهد -حفظهما الله- ومن أهم المعالم القديمة التي تعكس الجانب المضيء لتاريخ المملكة، وأولت له اهتمامها الخاص «الدرعية» التي اعترفت اليونسكو بها عام 2010م، وتقع بالقرب من مدينة الرياض..
والدرعية تَمثَّل عاصمة الدولة السعودية القديمة، وتتميز بالنمط المعماري الذي يعكس طبيعة العادات والتقاليد الاجتماعية في ذلك الوقت، وتوثيق المعارف العلمية والثقافية والحضارية القديمة فيها التي تشير إلى الأحداث التاريخية التي انتهت منذ فترات طويلة، ومر عليها بعض العقود والقرون، ولم تعاصرها الأجيال الحاضرة والمقبلة.. كما تعد كل من «الدار، والمتاحف الوطنية، والدرعية» وسائل وأدوات تعليمية مفيدة على نطاق واسع، بما تحفظ من الفيديوهات والأفلام التي تتحدث عن الماضي، وتُسخِّر المعرفة بطريقة مفيدة لأخذ الدروس، واستلهام العبر من الفترات التي عاشها المجتمع السعودي في السابق.. وكما أن للقمر جانبين أحدهما مضيء والآخر مظلم، يوجد لكل دولة جانب مظلم من تاريخها، مثل تاريخ الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا، التي تم توثيقها في كل من مركز التوثيق النازي في ميونخ، ومركز التوثيق التاريخي اليهودي في فيينا، وقد تم توثيقها بطريقة علمية منظمة يُسهِّل فهمها ويحفظها للأجيال المقبلة؛ لأنها تبدو خيالية في كثير من الأحيان، ومن الصعب أن تصدقها الأجيال المعاصرة؛ لذلك فإن مراكز التوثيق التاريخية والمتاحف الوطنية تقدم الأدلة الصوتية الواضحة بالأفلام الوثائقية التي تجسد بعضاً من آثارها، وتدفع الظن وتقطع الشك المتعلق بها، وتُقنع الزائرين والمشاهدين بصدقها وصحتها..
وعلى الرغم من أن تاريخ الدولة السعودية مضيء ومشرق منذ أربعمائة سنة تقريباً، كلها كفاح ونضال في سبيل بناء الدولة السعودية التي نعرفها اليوم، إلا أن هناك فترة زمنية تقدر بأربعة عقود وقعت متتالية من بداية عام 1400هـ إلى نهاية عام 1439هـ، خلالها تعطل الفكر السعودي عن الإبداع العلمي والثقافي، وتوقف فيها الإنتاج الحضاري عن النمو والتجديد، بقيادة مجموعة من الحاملين لدرجات الدكتوراه في المجالات الإسلامية المختلفة، الذين انحرفوا تدريجياً، وانزلقوا في التعنت والتزمت والتشدد، واستندوا في كثير من الأحيان إلى بعض الفتاوى المجتزأة من كتب التراث، وقاسوا على بعض المسائل والقضايا التي حدثت قبل عدة قرون، وفي بعض الأحيان الأخرى لووا أعناق النصوص الدينية، واستعملوها خارج السياق لدعم مواقفهم المخالفة، فأدخلوا المجتمع السعودي في حالة من الركود والجمود لمدة 40 عاماً تقريباً، ووقفوا حجر عثرة، وعقبة كؤود أمام التطور والانفتاح في مجالات الحياة المتنوعة، وأغلقوا أبواب الفكر في جميع التخصصات العلمية إلى أن قيض الله الأمير محمد بن سلمان، وتولى مقاليد ولاية العهد السعودي بفكر حديث متنور، فرفض غلوهم، وقضى على تشددهم الذي ظهرت بعض أشكاله في الأمثلة التالية:
(1): إساءة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتضييق على الناس في معاملاتهم اليومية والحياتية التي وصلت في بعض الأحيان إلى حد الإحراج الشديد، والتدخل في الأمور الشخصية والشؤون العائلية، والغلظة في التعامل والإهانة في بعض المواقف، والاعتداء على المواطنين باسم الدين، وفي كثير من الأحيان الملاحقة، واتهام بعض الناس بارتكاب المخالفات الدينية في الشوارع والطرقات والأسواق العامة.
(2): تعزيز الثقافات الخاطئة بحجة المحافظة على خصوصيات المجتمع السعودي المتمسك بالعادات والتقاليد العربية والإسلامية الأصيلة، ورفض التنوير والتجديد والحداثة، وازدراء الحضارات الغربية، والتحذير من أخطار التكنولوجيا الحديثة وأضرارها، بحجة الانخراط والانغماس في التغريب، مثل تحريم أطباق القنوات الفضائية، وجوالات الجيل الرابع لاحتوائها على كاميرات التصوير، ورفضهم قيادة النساء للسيارات.
ولمعرفة أين كنا وما نحن عليه اليوم أقترح إنشاء مركز لتوثيق أربعين عاماً من التطرف والغلو التي عاشها المجتمع السعودي، ويرمز إليها بفترة «الصحوة»؛ ليجسد أشكال التشدد والغلو أمام الجيل الحاضر والأجيال القادمة، ويتيح لهم معرفة الوضع الذي عاشه المجتمع السعودي خلال مرحلة الجمود والانغلاق، كما سيتيح لهم المقارنة بين فترة غلو الصحوة، وبين مرحلة الانفتاح الفكري، ومواكبة مستجدات الحداثة والتنمية والتطوير التي تعيشها المملكة في الوقت الحاضر. ويقنعهم بأضرار التشدد والغلو وأخطاره في الحياة وآثاره السيئة على المجتمع، ويؤكد لهم على أهمية محاربته والقضاء عليه، قبل أن يستفحل ويعود مرة ثانية..
الخلاصة:
المجتمع السعودي مدين بالعرفان لولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي أنهى نفوذ الخطاب الديني المتطرف، وقضى على انتشار الغلو والتشدد والجمود، وفتح أبواب التطوير الحضاري والتنوير الثقافي.