عبد الاله بن سعود السعدون
أعطى فوز الأحزاب المعارضة التركية في الانتخابات البلدية التي أُجريت قبل عامَين زخمًا دافعًا لها للمطالبة بإجراء انتخابات مبكرة لإزاحة حزب العدالة والتنمية عن الحكم بعد اتهامهم الحكومة الحالية بتوريط تركيا في أزمات عسكرية وسياسية، وتدهور اقتصادي ومالي، لم يمر به المجتمع التركي منذ تولي الحزب الحاكم السلطة عام 2002م.
ويتزعم تحالف المعارضة حزب الشعب الجمهوري بزعامة أمينه العام كمال كيليج دار، الذي يعارض الرئيس أردوغان، ويوجه له مسؤولية نتائج العمليات العسكرية في شمال سوريا والعراق، ويحذر من تكاليفها الباهظة التي أرهقت ميزانية الدولة، علاوة على المخاطرة بأرواح أبناء القوات المسلحة الذين راحوا ضحايا هذه الحروب التي دامت سنين دون حل ينهيها ويريح أبناء الشعب التركي من تداعياتها على الأمن القومي.
ومن جهة ثانية، أدى هذا الوضع الغير مستقر خارجيًّا إلى تدهور سعر صرف الليرة التركية التي كانت قبل تلك الحروب تعادل الدولار الأمريكي الذي قفز سعره لنحو تسعة ليرات؛ ما انعكس هذا التدهور على الاقتصاد التركي بكل قطاعاته، وتعرّض المواطن لموجة ارتفاع في الأسعار، تعالت معها نداءات الاحتجاج من الطبقتَين الوسطى والفقيرة على هذا الوضع المعيشي الصعب، وبخاصة أصحاب الدخول الثابتة الذين ارتفعت تكاليف المعيشة والدخل بما لا يتماشى مع الارتفاع دخولهم.
وتوجهت الأحزاب المعارضة مجتمعة بالنقد والمسؤولية إلى صهر الرئيس أردوغان السيد براءات البيراق وزير الخزانة والمالية، الذي لم يستطع التغلب على أسباب الأزمة النقدية غير عزله رئيس البنك المركزي الذي قدم خططًا إنقاذية للوضع النقدي، ولكن الرئيس أردوغان تضامن مع وزير المالية، وعزل رئيس البنك المركزي المالي المختص؛ ما أدى إلى انتقاد شعبي عالٍ، تغذيه الأحزاب المعارضة التي شنت حملة على الحزب الحاكم، نفذتها في مجلس النواب والصحافة التركية، المرئية والمقروءة.
وتحاول المعارضة التركية توحيد صفوفها بتحالف واسع، يضم الحزب الأقدم في تركيا (حزب الشعب الجمهوري) ومعه حزب (الجيد) بزعامة السيدة ميرال أكشنار التي تحظى بالتأييد والإعجاب من قِبل نساء تركيا لوطنيتها وشجاعتها في محاسبتها الحكومة الحالية. ومن المحتمل مشاركة حزبَي المستقبل بزعامة الدكتور أحمد داوود أوغلو والديمقراطية والبناء بزعامة علي باباجان، اللذين انشقا مؤخرًا عن الحزب الحاكم (العدالة والتنمية)ن وهما من مؤسسيه وقادته لفترة طويلة، ولهما أنصار ومؤيدون داخل قواعد الحزب في كل المحافظات التركية.
ولو عدنا قليلاً لنتائج الانتخابات السابقة التي حقق فيها الحزب الحاكم نسبة 43 % من أصوات الناخبين، ومعها فوز الرئيس أردوغان بأغلبية تصل إلى 53 %، فإن كل المؤشرات تؤكد أن هذه النتائج ستتغير لو أُجريت الانتخابات المبكرة في العام المقبل بدلاً عن موعدها الرسمي الذي تتمسك به قيادات حزب العدالة والتنمية في 2023م؛ وذلك لاعتبارات خاصة، أهمها اجتياح وباء كورونا كل الجغرافية التركية، وأيضًا الظروف الداخلية والإقليمية والدولية، وانشغال القيادة بالعمليات العسكرية في سوريا وشمال العراق وليبيا، والمحاولات التصحيحية للوضع الاقتصادي، وذلك بقرارات رئاسية، منها عزل وزير المالية والخزانة صهر الرئيس السيد البراق، وإعادة رئيس البنك المركزي المعزول إلى منصبه، ومنحه الصلاحيات الكاملة لإنعاش الليرة التركية، ومحاولة إيقاف تدهورها، وتذكير الناخب التركي بمجموعة الإصلاحات التي قدمها حزب العدالة والتنمية للشعب التركي منذ تسلمه السلطة عام 2002م، وإجراء المقارنة بين وضع تركيا آنذاك واليوم، ومراحل التقدم الاقتصادي والمكانة الإقليمية التي حققها قادة الحزب الحاكم، وبخاصة في تنفيذ المشاريع الاستراتيجية في كل المناطق التركية، ولكن المعارضة تتهم الحكومة والحزب الحاكم بأنهما تحولا لشركة عائلية داخليًّا، واتباع قرارات عليا بالتدخل غير المبرر إقليميًّا في ليبيا وسوريا والعراق، وخلق جو عدائي لتركيا في العالم العربي.
إنّ الوضع الاقتصادي والسياسي غير المستقر بتأثير العمليات العسكرية الخارجية، وتذبذب سعر الليرة أمام العملات الأجنبية حتى بلغت وضعًا متدهورًا؛ فأصبح الدولار الأمريكي يعادل تسع ليرات تركية؛ وبذا تغيرت تسعة أضعافها سلبيًّا في أقل من عامَيْن، كل هذا يحتم على الحزب الحاكم اتباع استراتيجية سياسية واقتصادية جديدة، تعتمد على مبدأ سلام في الوطن، وسلم مع العالم، وتحقيق أعلى مستوى من تذويب المشاكل الثنائية والإقليمية والدولية التي تشكل تركيا طرفًا لها، بتنفيذ استراتيجية تعتمد على الحوار أولاً، والأخذ في الاعتبار ركائز البرماكتية الأخلاقية التي توازن بين مصالح تركيا الدولة، والجوار الإقليمي المستهدفة صداقته، والابتعاد عن تبني الأفكار السياسية الشمولية التي تجعلها في تقاطع إقليمي ودولي يؤثر سلبًا على وضعها الداخلي ومع جوارها العربي.
وقد لوحظ انخفاض كبير وملحوظ في موازين التجارة الخارجية بين تركيا والعالم العربي؛ ما أثر سلبيًّا على مجمل اقتصاداتها، وخسارة عائدات مالية كبيرة لتجارتها الخارجية، التي ولّدت حالة من عدم الرضا لدى المعنيين بالقطاع الاقتصادي والخدمات العامة.
إن قادة تحالف المعارضة استعدوا للحملة الانتخابية بمشاركة الدكتور أحمد داوود أوغلو زعيم حزب المستقبل، وعلي باباجان رئيس حزب الديمقراطية والبناء الجديد، وكمال كليجدار زعيم حزب الشعب الجمهوري، بالبدء بجولة في المحافظات التركية لشرح مشروعهم الانتخابي، وتركيز نشاطهم في المدن والريف التركي. ومن المؤمل اختيار مرشحهم الرئاسي المنافس القادم للرئيس أردوغان في الانتخابات القادمة في بداية العام القادم، التي تدور بين ثلاث شخصيات مهمة: رئيس بلدية إسطنبول المهندس أكرم أمام أوغلو، ورئيس بلدية العاصمة أنقرة منصور ياواش الذي يحظى بشعبية واسعة بين رجال الإعلام والاقتصاد، والثالث الرئيس السابق عبدالله كول الذي اشترط قبوله الترشُّح للرئاسة إذا اتفقت جميع أحزاب المعارضة عليه.
ويحاول قادة حزب العدالة والتنمية الحاكم تفكيك تحالف المعارضة الانتخابي بإضافة فقرة جديدة لقانون الانتخابات تحدد مدة عام للحزب الجديد حتى يتأهل لخوض الانتخابات، ولا يجوز انتقال أعضائه لقوائم انتخابية لأحزاب أخرى مشتركة في الانتخابات؛ وبذلك يضع السواتر المانعة لمشاركة الحزبين الجديدين المنشقين عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، ويمنع انقسام القاعدة الانتخابية المؤيدة له، وشكل تساؤل زعيم حزب المستقبل المعارض للرئيس أردوغان: هل هو الذي يحكم أم شريكه المتحالف معه في الانتخابات القادمة البروفيسور دولت باهجلي زعيم حزب الحركة القومية؟ ويسعى داوود أوغلو إلى زرع مسمار التشكيك في لوح تحالف أردوغان باهجلي، ومحاولة تفكيكه؛ وهو ما يضعف تفوق الحزب الحاكم في الانتخابات القادمة.
كل الأنظار ستتجه نحو ما سيخرجه الصندوق الانتخابي إذا ما تم تحديد موعد جديد للانتخابات المبكرة العام القادم، ورضوخ الحزب الحاكم للرغبة الضاغطة لتحالف الأحزاب المعارضة والشارع السياسي لإجرائها مبكرًا.. والكثير يتساءل: هل سيبقى الصندوق الانتخابي على صداقته لحزب العدالة والتنمية الحاكم أم سيميل نحو تحالف المعارضة، ويأتي بوجوه جديدة لتدير العملية السياسية التركية بشكل مختلف؟