محمد آل الشيخ
أعظم ثلاثة اكتشافات مبكرة عرفتها الإنسانية، ونقلت الإنسان من حالة البهيمية إلى حالة الإنسان المتميز على غيره من المخلوقات كانت اكتشافه أولاً (للنار) حينما لاحظ أن احتكاك حجرين ببعضهما تولد شرارة، ومنها يستطيع أن يشعل نارًا ونوراً، أضاءت له الكهف الذي كان يأوي إليه، ويحتمي به من الحيوانات المفترسة، ومن ثم يطبخ بها ما تعسر هضمه من اللحوم والنباتات. الاكتشاف الثاني حينما لاحظ أن أصل النباتات التي يلتقط ثمارها ويأكلها كانت (البذور) التي يستطيع أن يستزرعها فيضاعف إنتاجها. والاكتشاف الثالث (العجلة)، التي كيّفها لتنقلاته، وزعب الماء من الآبار، ومن ثم في حقول الصناعات المختلفة. هذه الاكتشافات الثلاثة غيرت مجرى حياة الإنسان، وجعلتها أكثر يسراً، واستطاع بها أن ينتقل من حياة أشبه ما تكون بحياة البهائم إلى حياة أكثر تطورًا إذا ما قارناها بالحياة البدائية التي كانت أقرب إلى حياة الحيوان. وللقارئ أن يتصور لو أن أحفاد من حققوا مثل هذه المنجزات، تخلوا عنها، ونبذوها وراء ظهورهم، وعادوا إلى أسلافهم الذين عاشوا قبل من حققوا لهم هذه المنجزات التي ذكرت، أتراهم سيكونون عقلاء أسوياء؟
هذا المثال الذي سبق ذكره أردت منه أن أقرب إلى القارئ الحالة المتخلفة لدى بعض المتزمتين الذين يدعون للعودة إلى ما كان عليه السلف، دون أي تمييز بين المعقول وغير المعقول؛ حتى أن أحد من غرق في التزمت منهم، وكان يسكن في القصيم كان ينأى بنفسه عن ركوب السيارة في تنقلاته، ويُفضل الدابة عليها، بل ويمنع دابته أن تطأ على الطرق المسفلتة لأن السلف لم يكونوا يسفلتون طرقهم، ويحرم التعاملات بالنقود الورقية في البيع والشراء ويفضل عليها المقايضة، بل و(يكره) السكن في غير المباني الطينية التي كان السلف يسكنونها، كل ذلك بحجة أن السلف الصالح لم يعرفوا هذه البدع المحدثة، والتي أتت إلينا من اكتشافات ومخترعات الكفار، ويرى أن ذلك ينتهك مبدأ (الولاء والبراء)، وتضطرنا إلى التعامل مع الكفار، الذين كان الماضويون يأبون التعامل معهم، ويعضون على ممارساتهم تلك بالنواجذ. وذُكر لي أن شيخًا مصريًا سلفيًا أعاد في إحدى خطبه تخلف المسلمين الاقتصادي إلى أنهم تركوا جهاد الغزو، الذي هو ذروة سنام الإسلام، وقدموا السلم مع من يجب غزوهم، فلم يعد المسلمون يفتحون بلاد الكفار، وينهبون خيرات بلدانهم، ويسترقون نساءهم ورجالهم، فيبيعونهم، فيتوفر لبيت مال المسلمين مداخيل ضخمة، تغنيهم عن قروض البنك الدولي، الذي يرزح تحت ضيمه وظلمه بعض بلاد المسلمين. وهناك كثير من الوعاظ ورجال الدين الذين يستغلون جهل المتلقين المسلمين ويروجون مثل هذه الأفكار التي تثير الضحك والسخرية، ويتندر عليها الناس؛ وفي الوقت نفسه يجد هؤلاء من يناصرونهم، ويحتفون بهم، وهؤلاء على أية حال هم الفئة المتطرفة والمغالية، التي يختلف معها (الوسطيون) من السلفيين المعاصرين.
إلا أننا يجب أن ندرك أن هناك عاملاً فلسفياً مشتركاً بين جميع السلفيين، أو على الأقل الأغلبية العظمى منهم، مؤداه أن عالم المسلمين يسير وفق خط بياني ينحدر إلى الأسفل والأسوأ مع مرور الزمن، وأن القرون (الخيرية)، والمتميزة، هي فقط القرون الثلاثة الأول من الهجرة، وبعدها تبدأ الأوضاع بالانحدار والتقهقر، فاليوم هو بالضرورة أسوأ في (الخيرية) من الأمس، والغد هو بالضرورة أسوأ من اليوم، وهكذا دواليك. بينما أن العالم أجمع، والعالم الإسلامي على وجه الخصوص، وبالذات سكان المملكة، بأوضاعه الحاضرة أفضل وبآلاف المرات من الماضي. وهذا يشمل الحياة الدينية والدنيوية، لا فرق ؛ وسوف أحصر المقارنة هنا على بلدنا الذي هو مهبط الوحي ومهوى أفئدة المسلمين. والسؤال الذي يدحض هذه المقولة، وينسفها من أساسها، هو هل ما نعيشه اليوم من تحضر ورفاهية ورخاء وأمن واطمئنان هو أسوأ من أوضاع المملكة الاقتصادية والمعيشية والرفاهية منها قبل أن يوحدها المؤسس؟
ربما يقول قائل: إن المقصود بقرون الخيرية فقط ما يتعلق بالدين والعبادات. وأقول حتى هذا الجانب أيضاً، إذا استثنينا عصور الجمود والتخلف، التي عرفها المسلمون إبان حكم السلطنة العثمانية، فالعالم الإسلامي اليوم أصبح متفتحاً، وقادراً على مجاراة العالم المتفوق، وتيسرت سُبل العبادات، وممارساتها، عن ذي قبل بصورة لا تخفى على كل صاحب نظرة ثاقبة، يكفي أن تنظر إلى شعيرة الحج إلى بيت الله الحرام، وتقارنها من حيث اليسر والسهولة بالحج في الماضي، ستكتشف أن مقولة القرون الخيرية التي نص عليها أحد الأحاديث تختلف عما ينعم به المسلمون من حياة آمنة، ومستقرة.
وأنا مقتنع تمام القناعة، أن أرقابنا المعوجة إلى الماضي دون وعي أو تمييز هي واحدة من معوقات التنمية الكأداء، التي يجب أن نستبدلها بنظرة متفائلة بالمستقبل.
إلى اللقاء