د. عبدالله بن ثاني
في مقابلة مع سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في برنامج «60 دقيقة» الذي بثته شبكة «سي بي إس نيوز» الأميركية، قال: «المدارس السعودية تعرضت لغزو من جماعات متشددة، كالإخوان المسلمين، ولا يزال البعض منهم موجوداً، ولكن في القريب العاجل سيتم القضاء عليهم نهائياً». ورداً على سؤال في شأن القضاء على التشدد في النظام التعليمي، أجاب: «بالطبع سنقضي على التشدد، فلا توجد دولة في العالم تقبل تعرض نظامها التعليمي لغزو من أي جماعة متطرفة». وعليه تجب ضرورة مراجعة المقررات والمناهج ومنصات التعليم وتخليصها من شوائب الفكر الحركي...
وعطفاً عليه فإن من ينعم النظر ويمعن الفكر في التعليم يجد أن كل الأمم قد أولته اهتماماً وعناية لأنه ذو تركيبة معقدة تحتاج إلى تطوير دائم ومراجعات دورية ليواكب الخطط الإستراتيجية التي تنهض به، ويمثِّل التعليم هاجساً عالمياً عند كل الشعوب الطموحة ويحتاج إلى شفافية ومصارحة وقراءات نقدية دورية وكل ذلك يعد ظاهرة صحية لاستمرار مسيرة الإصلاح، ولا أدل على ذلك من طرح الرئيس الأمريكي رونالد ريغان عام 1983م مشروع «الأمة في خطر» بعد أن كلَّف 18 خبيراً لدراسة الإخفاقات التي كانت تهدّد مؤشرات الأداء في تعليم الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت في سباق مع ما يُسمى بالحرب الباردة آنذاك، ونحن لا ننكر جهود المسؤولين في التعليم في بلادنا الغالية كان الله في عونهم، وحرصاً على تجويد العملية التعليمية فإن المشهد بحاجة إلى مبادرات نوعية وبخاصة بعد نتائج المؤشرات العالمية الأخيرة في اختبارات البيزا والتيمز التي لا تتفق مع طموحات ولاة أمرنا في الريادة والصدارة التي تستحقها بلادنا بعد رؤية المملكة 2030 في الخريطة العالمية، ولا ترقى إلى إنفاق الدولة بسخاء من ميزانيتها على قطاع التعليم لا يقارن بالدول المتصدرة في تلك الاختبارات، فأين مكمن الخلل إذن؟...
إن إصلاح التعليم في أبسط صورة غير مزيفة لا يكون بنسخ التجارب الأجنبية أو تعبئة المناهج بأديولوجيات الفكر الوافد أو تطبيقات توصيات التقرير الأمريكي «الأمة في خطر» أو الياباني وحتى الفيتنامي، لأن الخبراء الذين صاغوه انطلقوا من احتياجات مجتمعاتهم وثوابتها وخصوصيتها وثقافتهم الأسرية والاحتياجات المجتمعية ابتداءً من سوق العمل وانتهاءً بالسياسة الكبرى للأمة، والإصلاح لا يكون بنقل القبعات لأن حجم الرؤوس مختلف...
وانطلاقاً من كل هذا فإنني سأعرض مقالين مختلفين في الاتجاه ومتضادين في المضمون وإن كان هدفهما إصلاح التعليم، وقد تم نشرهما في جريدة الوطن يتعلقان بالتعليم والصحوة علماً أن إصلاح التعليم يحتاج إلى أكبر من هذا بكثير، والأخطر من كل ذلك غياب التصور الحقيقي للمشكلة وكما قالوا الحكم على الشيء فرع عن تصوره وحينما يكون التصور ناقصاً وحقول تجارب، فإن التشخيص غير صحيح وحينئذ لا يمكن معه العلاج الناجع، بل ربما أدى كل تدخل غير مدروس إلى أن تتراكم المشاكل وتستعصي على الحلول ولذلك لا نزال في جدلية نظام المقررات والمسارات والحلول الطارئة رغم جهود المسؤولين في التعليم نظراً لغياب الإستراتيجيات الثابتة أمام التغييرات والتحولات الرسمية والمجتمعية:
1 - المقال الأول للأديب الكبير والمفكر سعيد السريحي بعنوان «الصحوة واختراق نظام التعليم « بتاريخ 14 / رمضان / 1441هـ وعرض فيه ما يلي:
أ- قال السريحي: «كانت الصحوة التي شهدتها المملكة على مدى عقود أربعة نتاج تزاوج بين حركتين من حركات الإسلام السياسي، إحداهما حركة داخلية نتجت عن قرون من الانغلاق تمثّلت في التطرف السلفي، والأخرى حركة وافدة إلى المملكة ضاق بها بلد المنشأ، فبحثت لنفسها عن بلد بديل، تمثّلت في جماعة الإخوان المسلمين. كان لكلتا الحركتين، التطرف السلفي وجماعة الإخوان المسلمين،».
وأقول من الأغاليط أن ساوى هذا المفكر بين منهج السلف وحزب الإخوان، ووصفه المنهج بالتطرف السلفي الذي حكم عليه بالانغلاق علماً أن ذلك الانغلاق بسبب الاختراق الحركي له، إن منهج السلف يقوم على ركائز منها طاعة ولي الأمر وعدم الخروج عليه، وجمع الكلمة وتوحيد المجتمع والوقوف أمام كل حركات التمرد والثورة وسد منافذ التكفير وبخاصة تكفير المعين وتقييد ذلك بقيود صعبة التحقق في الواقع احتراماً للضرورات الخمس، وهذه الركائز قد فرطت فيها الحزبيون والحركيون وعلى رأسهم التنظيم العالمي للإخوان المسلمين وما تناسل منها من القاعدة وداعش والتكفير والهجرة، ومن يعرف منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب يدرك أنه كان ثائراً على السائد المغرق في السلبية وعلى كل قيود التخلف والشعوذة والخرافات والبدع والشرك وكان يدور في فلك منهج السلف الصالح الذي يعاني من الأتباع الذين فشلوا في عرضه كما هو ناصع البياض، ومن الأعداء الذين يعدونه الحاجز الحصين أمام مشروعهم السياسي، ويكفيه أنه يدعم وسائل التمدن والترفيه المباح الذي حرمته تلك الجماعات لتوحيش الناس وتأزيم حياتهم بخطاب جهنمي يغيب الجنة مثلما يغيب خطاب الرحمة والسلم ويستحضر خطاب العذاب والحرب دون نظر للمناسبة والمصلحة، ومن الظلم والافتراء استحضار تلك النصوص والرسائل في المناهج والمقررات وقد قيلت في ظروف الحرب وتعميمها في أيام السلم في ظل معاهدات السلام والتفاهم بين الأصدقاء وحقوق الإنسان على أنها هي الإسلام وأنها منهج أئمة الدعوة المبني على قواعد أهل السنة والجماعة وهم أرحم الخلق بالخلق متجاهلين أن لها ظرفيتها الخاصة، وفات على السريحي أن كل المحاولات التي كانت تعبث بالمناهج كانت بسبب اختراق التنظيم العالمي للإخوان ولا علاقة للمنهج السلفي بها وليس له فيها قيد أنملة، ومن تأثر بها من مدعي السلفية فيمثل نفسه دون المنهج الذي يختلف معه في الأصول كما بينا سالفاً...
ب- قال: «كان لكلتا الحركتين، التطرف السلفي وجماعة الإخوان المسلمين، أطماعهما وأجندتهما التي تقوم على توظيف الدين من أجل الوصول إلى السلطة، كما كان لكلتا الحركتين، تجاربهما الفاشلة التي حالت بينها وبين الوصول إلى تحقيق مخططاتها. وإذا كان الملك عبدالعزيز -رحمه الله- قد تصدى لحركة التطرف السلفي حين انقلبت عليه وحاولت الحيلولة دون إقامة الدولة السعودية الثالثة، على أسس حضارية تنتمي للقرن العشرين، وكانت معركة السبلة معركة فاصلة وضعت حداً للتطرف، ومكنت الملك المؤسس من المضي قدماً في تحديث الحياة المدنية في الجزيرة العربية، بعد عصور من العزلة ظلت فيها الجزيرة خارج التاريخ»..
هذا افتراء على أئمة الدعوة والملك عبد العزيز -رحمه الله - لم يتصد للمنهج السلفي، بل يجب علينا أن نفرّق بين فئتين: فئة العلماء وهم في صف ولي أمرهم ولم ينزعوا يداً من طاعة بدليل رسائلهم في نصح الخارجين والمخالفين آنذاك قبل معركة السبلة ومن يراها يدرك أنهم كانوا على أصول منهج أهل السنة والجماعة. وفئة الجهال الخارجين ولهم أسبابهم -رحمهم الله-، وهؤلاء أشبه بالعوام ولاحظ لهم بالعلم الشرعي ولا تتحمّل قواعد المنهج السلفي أغاليطهم ومغامراتهم ولذلك الحكم بالتعميم على الجميع بالتطرف السلفي غير موضوعي تماماً وجهل لايغتفر أو تجاهل متعمد للحقيقة.
ج - قال السريحي: «فبقيت كلتاهما تتحين الفرص والظروف الموائمة لتحقيق حلمها، والمتمثّل في اتخاذ الجزيرة العربية مركزاً لتأسيس الدولة التي يوهمون جمهور الناس بأنها الدولة التي تعيد أمجاد الأمة الإسلامية، وتنطلق من الأرض التي انطلقت منها الدعوة الإسلامية، ومن جوار الحرمين الشريفين. مثّلت حركة جهيمان مطلع عام 1400 محاولة لا يمكن وصفها بغير افتقارها للحكمة... فشهدت المملكة تراجعاً وتحفظاً في الجوانب التي كانت تعتمد فيها سياسة الانفتاح على العالم ومنجزاته الحديثة، وقد شكل هذا التراجع حاضنة خصبة لتفشي فكر الصحوة في السنوات التي أعقبت حركة جهيمان».
وهذا كلام مملوء بالأغاليط التي لا يقرها المنطق والواقع آنذاك، إذ المنهج السلفي ليست له طموحات سياسية لأنه يرى البيعة وملتزم بها، وأما حركات الثوار كجهيمان وغيره فهم الخوارج الذين نقضوا البيعة وقاموا بالثورة والخروج وهما مختلفان كالليل والنهار وضدان لا يجتمعان ولا يلتفت إلى ادعاء جهيمان وأصحابه بأنهم السلفية المحتسبة لأن الأصول مختلفة وكان ادعائهم لاستقطاب الجهال وأحداث الأسنان للخروج... وأما قوله إن جذور حركة جهيمان بقيت في المشهد الشعبي وصنع القرار فغير صحيح، فقد نبذها العلماء والناس على السواء، وسأثبت بالدليل القاطع سلامة المنهج السلفي، استدلالاً بالعلامة سماحة شيخ الإسلام ابن باز الذي كان على رأس العلماء آنذاك في موقفين مخالفين لشباب الصحوة وناقضين لقواعدها التي قامت عليها، في ضبط المسار وعدم تصدير الكراهية والتهييج، الأول رسالته للشيخ أحمد شاكر الذي أفتى بوجوب قتل الإنجليز على كل مسلم لمحاربتهم مصر فقال فيها: «محاربة الإنجليز لمصر لاتوجب انتقاض الهدنة التي بينها وبين دولة أخرى من الدول الإسلامية ولا يجوز لأي مسلم من رعية الدولة المهادنة محاربة الإنجليز لعدوانهم على مصر وعدم جلائهم عنها» والرسالة في الرسائل المتبادلة بين الشيخ ابن باز والعلماء ص593، والثاني جواز الصلح مع إسرائيل في فتواه المشهورة في وقت كان لا يجرؤ على قول ذلك إلا من رزقه الله الفهم والعلم والسياسة وكان ابن باز على زهده وورعه وتقواه حبر الأمة وعالمها الصراح والسياسي المعتبر الذي لا يخشى في الله لومة لائم، وموقف آخر لسماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ في تحريم الانتحار وقتل النفس بحجة النكاية في الأعداء وكذلك فتاوى سماحة الشيخ صالح الفوزان وهذا منهج هيئة كبار العلماء التي لم يرصد عليها أي فتوى للقتل والكراهية والتكفير واستباحة الدماء وتدمير الممتلكات... والحديث في بقية المقال عن هذه الأفكار بلغة مغلوطة تفتقد الموضوعية في خلطها بين السلف والإخوان وعدم التفريق بينهما، بل خلط الحابل بالنابل بكل أسف...
نعم يتفق الجميع على قدرة التنظيم العالمي لاختراق التعليم ومناهجه ولكن ليست هناك علاقة لمنهج السلف الصالح بذلك الاختراق الذي كان بأيد حركية تحارب أولا الوسطية ومنهج السلف الصالح البريء من كل تلك الاستفزازات في المشهد التعليمي، بل نبهوا عليه ولا يزالون ينبهون على كشف مخططاتهم الحركية واستقطابهم للمستهدفين وأنشطتهم الثقافية...
2 - المقال الثاني للشيخ الوقور الأستاذ الدكتور أحمد الرضيمان بعنوان «نقد مسائل العقيدة تحت غطاء نقد الصحوة» في تاريخ 19 / جمادى الأولى / 1442هـ وفيه:
أ- قال الرضيمان: «إذا أردنا أن نحسن الظن بمن يسيء إلى مسائل الاعتقاد الواردة في الكتاب والسنة، والتي تضمنتها مقرراتنا الدراسية مثل مسائل الولاء والبراء على سبيل المثال، فإننا نقول إنهم جهال يتكلمون بلا علم، وذلك لأنهم توهموا أن النصوص تتضمن معنى باطلا، فلجأوا إلى التحريف تارة والتعطيل تارة، وإضافة معان باطلة تارات أخرى، وهكذا كل من كانت مقدماته باطلة، فإن نتائجه باطلة كذلك، ولو أنهم سألوا إذ لم يعلموا لكان خيراً لهم من نشر جهلهم على صفحات الصحف ومواقع التواصل، فإنما شفاء العي السؤال...».
وأقول إن العنوان ابتداء يضع حاجزا لكل محاولات الشرفاء في إصلاح التعليم، ويولد هذه الشعور إرهاباً بالربط بين طرفين متناقضين تماماً نقد العقيدة ونقد الصحوة، وربما كانت هذه العبارة الافتتاحية قد أفسدت كل محاولات التسويغ والتبرير فيما بعد ذلك فغير صحيح هذا التصور، إذ جهود المصلحين في المناهج لا تقتضي شطب وإنكار تلك النصوص وإنما الهدف منع استغلالها واستحضارها في غير موضعها من قبل الحركيين وتنظيم الإخوان والقاعدة وداعش، إذ نصوص الحرب لا يصلح إنزالها على حال السلم، واستحضارهما عكساً يفسد الاثنين معاً وهذا من الصد عن سبيل الله ومن الإساءة للإسلام، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة وستأتي مواقفه لاحقاً.
ب - قوله: «معلوم أن هناك منظمات ومراكز وجهات معادية لبلادنا تتلقى ما يكتبه بعض هؤلاء الجهال من اتهامات لمقرراتنا الشرعية الدراسية، فيفرحون بها، لتوجيه النقد إلى بلادنا».
هل يعتقد شيخنا الجليل أن تلك المراكز غير قادرة على كشف مناهجنا ومقرراتنا الدراسية بمفكريها وأدواتها في الفحص والكشف، بل إنهم أكثر فهماً وأقدر على ذلك... والمصلحون لا يهمهم ردات الفعل، بل يحاولون تقديم الإسلام على صورته الحقيقية في السماحة والأخلاق..
ج - قوله: «وأن بعض مناهج الدين الغربية أيضاً تتضمن تطرفاً وإساءة للإسلام والمسلمين، كما بيّنتُ ذلك في كتابي «الدعاوى العقدية في مقررات التعليم العام في المملكة العربية السعودية»، لكنهم يفرحون بأي إساءة لبلادنا، وإن كانت كاذبة خاطئة، ويغضون الطرف عن إساءة بعض مناهج الدين الغربية للإسلام والمسلمين. كما يغض الطرف عنها بعض كتَّابنا الذين لا شأن لهم إلا اتهام مسائل العقيدة في مناهجنا بجهل وظلم، وإلا فالنقد الصحيح مرحب فيه ولا يغضبنا، وإنما يغضبنا التلبيس والظلم الذي تستفيد منه الجهات المعادية لبلادنا».
وأقول ليس في هذا المنهج مصلحة للإسلام، ولا يمكن مقارنته بغيره في السماحة والتعايش والسلام وحب الخيرية للإنسانية جمعاء وكل ما عدا ذلك فليس منه في شيء، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ فها هو يلوم عائشة على موقفها من اليهود الذين يدعون عليه بالموت، قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: (دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ لَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: فَقَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ...)..
د - قال: «فـ»الولاء والبراء» دل عليها الكتاب والسنة، والآيات والأحاديث فيها كثيرة، ولو أردت سردها لاحتجت عدة مقالات، لكنها معلومة، ومن شاء الاطلاع عليها فليقرأ القرآن الكريم، وأقول: إذا لم يدرس الطلاب آيات الولاء والبراء بصورة صحيحة في مدارسنا فأين يدرسونها؟! ومن سيشرحها لهم من كتاب الله؟!.»..
وهذا غير صحيح ألبتة، ويفتقد الحكمة وإلا كيف يفسر فضيلته مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم في حذف بعض النصوص وفي موقف جدال وتمايز كما في صلح الحديبية لمصلحة خفيت على كبار الصحابة كسيدنا عمر رضي الله عنه، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما رأى سهيل بن عمرو قال: «لقد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل» ولذلك أجابه بحذف بعض العبارات والنصوص مع أنها باقية في وجدان المسلمين ولا تغيرها السنون، وأول اعتراض في صيغة المعاهدة كان في بداية المعاهدة حينما أمر الكاتب سيدنا علي بن أبي طالب أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم فاعترض سهيل وقال لا أعرف الرحمن لكن أكتب باسمك اللهم فضج الصحابة على هذا الاعتراض، قائلين: هو الرحمن، ولا نكتب إلا الرحمن، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمشيًا مع سياسة الحكمة والمرونة والحِلم، قال للكاتب: «اكتب باسمك اللهم»، واستمر في إملاء صيغة المعاهدة هذه، فأمر الكاتب أن يكتب «هذا ما اصطلح عليه رسول الله»، وقبل أن يكمل الجملة اعترض رئيس الوفد القرشي على كلمة رسول الله قائلاً: لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك، واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله؟ أكتب اسمك واسم أبيك. واعترض المسلمون على ذلك، ولكن رسول الله بحكمته وتسامحه وبُعد نظره حسم الخلاف وأمر الكاتب بأن يشطب كلمة رسول الله من الوثيقة فالتزم الصحابة الصمت والهدوء.
ولولي الأمر الحق في ضبط مفردات المناهج واختيار من النصوص ما فيه مصلحة للمسلمين ويدرء عنهم المفاسد، ويترك أحياناً الأولى كما نهى عن سب الآلهة والأصنام في قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به: ولا تسبُّوا الذين يدعو المشركون من دون الله من الآلهة والأنداد, فيسبَّ المشركون اللهَ جهلاً منهم بربهم، واعتداءً بغير علم، وعن ابن عباس قوله: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم)، قال: قالوا: يا محمد، لتنتهين عن سبِّ آلهتنا، أو لنهجوَنَّ ربك! فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم، فيسبوا الله عدوًا بغير علم.
كما أن الولاء والبراء لا يعني التجهم في وجوه الآخرين ولا يعني التهجم عليهم بالبذاءة والترصد لهم في الزوايا والشتم على المنابر ورؤوس الأشهاد وهذا كله مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم مع التنوّع العرقي والطائفي والديني في المدينة، ولذلك أسلم الناس وآمنوا بالله وسموه بالأمين صلى الله عليه وسلم، يجب علينا ألا نعلم أجيالنا الاستعداء على الشعوب وتصدير الكراهية بحجة أن هناك نصوصاً تؤكد ذلك قيلت في ظرفية معينة وفي حالة حرب طارئة مقابل نصوص كثيرة تؤكد على التعايش والتسامح قيلت في حالة السلم فلماذا لا تستحضر هذه النصوص؟ من مثل قوله تعالى {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8، 9].
قال ابن القيم في «أحكام أهل الذمة» (1/602): «فإنَّ الله سبحانه لما نهى في أول السورة عن اتخاذ المسلمين الكفار أولياء، وقطع المودة بينهم وبينهم، توهَم بعضُهم أن برَّهم والإحسان إليهم من الموالاة والمودة، فبيَّن الله سبحانه أنَّ ذلك ليس من الموالاة المنهي عنها، وأنه لم ينه عن ذلك، بل هو من الإحسان الذي يحبه ويرضاه وكتبه على كل شيء...» وقال الحافظ ابن حجر في» فتح الباري» (5/233): «ثم البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه، في قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، الآية، فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل، والله أعلم». وقال السعدي في «القواعد الحسان» ص (24): «فالنهي واقع على التولي والمحبة لأجل الدين، والأمر بالإحسان والبر واقع على الإحسان لأجل القرابة، أو لأجل الإنسانية على وجه لا يخل بدين الإنسان». ويرى بعض العلماء من تطبيقات ذلك إعطاؤهم من الزكاة والصدقات تأليفاً لقلوبهم، فكيف يفسر هذا حينئذ؟!...
أين هذه النصوص ولماذا تغيب عن المناهج والمقررات ويستحضر فقط أمرت أن أقاتل الناس، الذي قيل في ظرفية معينة تتعلَّق بحالة الحرب آنذاك، وحينئذ لا ندري كيف يفسره المعلم ولا كيف يفهمه الطلاب فيترك للمتخصصين وطلاب الشريعة وأصول الدين فإنهم يفهمونه على طريقة السلف الصالح التي لا تسبب حرجاً للمسلمين مع غيرهم، فالحكمة تقتضي عدم مناسبة عرضه في المناهج يا فضيلة الشيخ؟
هـ - حينما عرض فضيلته لنصوص البر اقتصرها على الأم والأب والزوجة، والأجيال بحاجة إلى أن تتعلَّم الأخلاق مع الآخر وحسن التعامل مع الأمم دونما تفريق انطلاقاً من أن خلقه صلى الله عليه وسلم كان القرآن وكان صحابته رضوان الله عليهم في تطبيقاتهم السلوكية على مثل هديه علماً أن الصحيحين مثلاً مملوءان بأحاديث الرحمة والبر والصلة مع الجميع دون تمييز ومع غير هؤلاء الذين هم من الدرجة الأولى في القرابة وما كان من مواقف حاسمة كانت لظروف الحرب آنذاك وكانت الأصول في السلم تختلف عنها تماماً وعلى نقيضها، بل إنه في آخر المقال يرى السكن في بلاد الكفار والتعاون مع الأمم والتفاهم مع الشعوب جريمة لا تغتفر وطعناً في الولاء والبراء فلا حول ولا قوة إلا بالله...
والله من وراء القصد
** **
- وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لشؤون المعاهد العلمية