خالد الغيلاني
فضلت هذا العنوان على الترجمة العربية السائرة (الجنس الآخر) لمؤلَّف SIMONE DE BEAUVOIR LE DEUXIEME SEX المترجم إلى الإنجليزية THE SECOND SEX لأنه يؤدي المعنى بشكل أفضل، حيث إن مفهوم الآخر مفهومٌ متعدد المعاني، ومختلفٌ باختلاف الرؤى البحثية فلسفياً ونفسياً رغم أن ثمة اتفاقاً على أن هذا الآخر مجاوز لمعنى الأنا فسارتر مثلًا يريد به مطلق الآخر المضاد أو المفارق للأنا الوجودي لأنه يحد من الحرية والتشكل الوجودي للفرد لذلك اختتم مسرحيته (لا مخرج) بمقولته المشهورة (الجحيم هو الآخرون) (HELL IS THE OTHER) كما يربط سارتر بين الكينونة والخجل وأن الآخر عنده قد يكون شخصًا يحاول تقييدي أو صبغي بمفهومه أو السيطرة علي وقد يكون شعورًا تكبيلياً من جراء فعل ما وهو بذلك يدعو إلى الانعتاق التام لذلك يقول لالاند في موسوعته الفلسفية (فللأنا صفتان فهو ظالم بذاته من حيث إنه يصنع ذاته ضد الكل وهو متنافر مع الآخرين من حيث إنه يرغب في استبعادهم لأن كل أنا هو العدو ويريد أن يكون المستبد بكل الآخرين) أما فوكو على ما بينه وبين سارتر من اختلاف فإنه يربط أيضاً بين الآخر والموت وربما سبقه فرويد إلى ذلك حيث يرى أن جدلية الحضارة ما هي إلا جدلية بين غريزة الحياة (إيروس) وغزيرة الموت (ثاناتوس) هذا التعارض كالتعارض بين الحب والجوع وهو ما يجعلنا نقرر كغيرنا من الفلاسفة أن الحياة مبنية على الثنائيات ومن خلال هذه الثنائية تتولد الحياة والحضارة وتتشكل المفاهيم والإبداع حتى إن الثنائية قد تكون في الأفكار كفكرة الخير والشر إلا أننا يمكننا أن نعد فوكو فيلسوف الهامش أو المستبعد إنه يختلف مع مفهوم الشك العقلي الديكارتي فلا يعود الكوجيتو أنا أفكر إذن أنا موجود والترجمة الفعلية أنا أشك إذن أنا موجود بل سيحل محله بحسب فوكو أنا أفكر في الآخر الذي يفكر فيَّ لكن هذا الآخر عند فوكو هو اللا مفكر فيه في الفكر نفسه أو هو الهامشي الذي يستبعده المركز أو هو الماضي الذي يقصيه الحاضر على أن علم الاجتماع قد استخدم هذه اللفظة في تعبير المجتمعات التي تستثني فيها بعض فئاتها على أنها من «الآخرين» المتصفين بصفات دونية وبهذا تكون لفظة (الآخر) لها معانٍ عدة لذلك كانت لفظة (الثاني) أدل على المعنى المقصود وهو الدونية التي كانت تعيشها المرأة عندما كانت توضع في مرتبة ثانية تأتي بعد الرجل الأول.
شهد العالم عدداً من الموجات النسوية التي أثرت في المجتمع عموماً وعلى المرأة وكينونتها الإنسانية؛ وحسب سيمون دي بوفوار (1908 - 1986) وهي من رائدات الحركة النسوية، فإنها بدأت بشكل مبكر مع الكاتبة الإيطالية الفرنسية كريستين دي بيزان (1364 - 1430) في كتابها (مدينة السيدات) THE BOOK OF THE CITY OF LADIES وكتابها (رسالة إلى إله الحب) LETTER TO THE GOD OF LOVE الذي يعد أول عمل كبير في مجال النقد النسوي حيث انتقدت كراهية المرأة ووصف طبيعتها التي وصفها لها جان دي ميون في (رومانس الوردة) THE ROMANCE OF THE ROZE حتى قالت سيمون: (كانت المرة الأولى التي نرى فيها امرأة تأخذ قلمها دفاعاً عن جنسها)، ويمكن أن نعتبرها نسوية مبكرة تشبه طريقتها إلى حد كبير طريقة النسوية التي كانت موجودة في بداية الحركة النسوية عام 1890 (ما بعد التنوير) ويرى الباحثون في الحركات النسوية أن ماري ولستونكرافت «قامت بكتابة أول نصوص النسوية الحديثة تحت اسم «دفاع عن حقوق المرأة» على أصداء الثورة الفرنسية، عام 1792 ليكون فيما بعد أحد المرتكزات الرئيسة للفكر النسوي في الموجة الأولى التي انطلقت بالتضامن مع حركة تحرير العبيد مطالبةً بحق النساء في الاقتراع والحضانة والملكية في أواخر القرن التاسع عشر من خلال عقد مؤتمر «سينيكا فولز» في الفترة من 19 إلى 20 يوليو 1848 الذي تبلور منه أول خطاب نسوي ما لبث أن آتى ثماره بعد ففي عام 1918 حصلت النساء في بريطانيا ممن تزيد أعمارهن عن ثلاثين سنة على حق التصويت، وتوسع هذا الحق عام 1928 ليشمل جميع النساء ممن تجاوزت اعمارهن الواحد والعشرين. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد حصلت المرأة على حق التصويت عام 1920م.
أما الموجة النسوية الثانية فقد بدأت في الستينيات حتى نهاية السبعينيات من القرن المنصرم وتميزت عن الموجة الأولى بالتوسع في نطاقها والتنوع في قضاياها وبالخلفية العميقة لأفكارها وقد ارتبط أوج الموجة مع كتاب كيت ميليت (السياسة الجنسية) (1970) فبعد أن طرحت كيت ميليت «كل ما هو جنسي، هو سياسي» وأن الجنس خلف جميع الأسئلة السياسية التي يمكن أن تعرض لنا questions that sex underlies all political ومن الكتب التي اعتمدتها الموجة الثانية وكان مصدر إلهام كتاب سيمون دي بفوار (الجنس الثاني) عن الحركة النسائية ونلحظ فيها التمييز بين الجنس والجندر (النوع الاجتماعي) الذي يكتسب تدريجياً وهذا التمييز دأب الفكر النسوي على التأكيد عليه ومحصلته أن التشريحي البيولوجي ليس قدراً يلزم المرأة منذ ولادتها إلى أن تموت فالجنس الجانب الثابت والجندر هو نتاج عملية التكيف الثقافي فلا يمكن عزو وظائف المرأة الاجتماعية إلى الحتمية البيولوجية وهذا ما يجعلنا نتساءل هل يعني أن جنساً معطى لأحد ما يقوده إلى أن يكتسب جندرا معينا أم يدخل في ذلك الأفعال الاختيارية والتملكية أو ما نسميه بالفاعلية الشخصية أو ما يعبر عنه سارتريا بالمشروع المستقبلي وهذا ما يعني أن يصبح الجسد محلا لبنى جندرية أخرى متى ما بلغ قمة التأويل الثقافي أو آخر الصيرورة الاجتماعية على أن العوامل الخارجية (كالنظام الأبوي) قديما في حق النساء أو اللغة المتمركزة حول تفضيل الذكر يمكن أو يوجد لها شبيه في حق الرجل من خلال الأنظمة السياسية والاجتماعية القائمة التي تقولب الإنسان في أنماط سائدة ومتخلفة وإن كانت في حق المرأة أكثر. أما الموجة النسوية الثالثة التي عرفت باسم (ما بعد النسوية) أو (ما بعد الحداثة) أو (نسوية الاختلاف) difference feminism التي تؤكد على النشأة البيولوجية لبعض الصفات وهذه الموجة بدأت في منتصف الثمانينيات وتميزت بالتركيز على التقاطع بين العرق والجندر وهذا ما أدى الى تزايد نسبة عدد الناشطات النسويات الملونات والآسيويات كما أنها تختط مسلكا يتم فيه الابتعاد عن الأيدلوجية التي تضع الرجل والمرأة في فئتين منفصلتين وتؤكد أن الحصول على الحقوق لا يعني التشابه المطلق فهي تؤكد على الاختلاف وتعمل على اكتشاف وتفعيل مواطن الاختلاف كما أنها تبدي ميلا للرجل كأب أو زوج أو صديق وتعتز منظرات هذه الموجة بأنوثتهن وتعتبر ذلك مصدر قوة لا ضعف وتتوسع في تقل الاختلاف داخل الموجة وتعتبر ذلك تناقضا طبيعيا وتركز على رفع الوعي وانتشار التعليم ويلاحظ تركيزها على سرد القصص والشهادات والوقائع التي يتم فيها اضطهاد النساء كوسيلة لرفع الوعي النسوي وهي بذلك تختلف عن النسوية الأولى في أوائل القرن العشرين التي حققت حصول النساء الى حق التصويت الانتخابي أو الملكية كما لا تشبه نسوية السبعينيات أي الموجة الثانية من النسوية التي ركزت على الطبقة الوسطى للمرأة البيضاء حتى وصفت بعنصريتها للعرق الأبيض لكنها مع ذلك سارت على نفس الخط في المطالبة بحق المرأة في الاستقلال التام والحرية التي من ضمنها الحرية السياسية وحقها في تقلد المناصب العليا في الدولة.
النسوية العربية
ارتبطت دعوة تحرير المرأة بمدلولين اثنين الأول قيم ومبادئ الثورة الفرنسية (1789) وكانت هذه الدعوة نتيجة الظلم والامتهان الذي تعرضت له المرأة باعتبارها أصل الخطيئة ومنبع الشر والفساد والمدلول الثاني عبارة عن فلسفة رافضة لربط الخبرة الإنسانية بخبرة الرجل وإعطاء فلسفة وتصور عن الأشياء من خلال وجهة نظر المرأة فبينما كانت الدعوة إلى تحرير المرأة دعوة إنصاف مما ألحق بها من أذى وظلم إذا بها تغدو في ستينيات القرن العشرين حركة متطرفة تدعو إلى تقديم قراءات مختلفة للدين واللغة والتاريخ والثقافة بشكل عام وإلى التمركز حول الأنثى وإبراز قيم الصراع بين الرجل والمرأة فبينما كانت الحركات التحررية القديمة تصدر عن الرؤية الإنسانية المتمركزة حول الإنسان في مراحل العلمنة الأولى فقد أعادت الحركة الجديدة صياغة الإنسان ذاته في ضوء معايير المنفعة المادية والجدوى الاقتصادية حتى أصبح تاريخ الحضارة البشرية تاريخ صراع بين الرجل والمرأة ويقول صاحب كتاب (أزمة الأدب النسوي): ولعل من أخطر المضامين وأكثرها تطرفا في بعض المسرحيات والروايات النسوية أنها تدعو إلى التمرد على السلطة أيا كان نوعها لدرجة أن بيجي كونجيرز في كتابها (الفوضوية والنسوية) صرحت بأن الدولة ليست سوى تنظيم ذكوري أبوي يجب التخلص منه وهذا لا يعني سوى أن الحركة النسوية لا تهدف إلى السيطرة وامتلاك القوة والنفوذ بقدر ما تهدف إلى القضاء على قوة ونفوذ الآخر وقد آثار هذا التوجه الشكوك لدى قطاعات عريضة في المجتمع في الحركة النسوية حتى تعرضت لنقد وهجوم كاتبات بارزات من أمثال (كريستينا هوف هومرز) حتى قالت الكاتبة والشاعرة الأمريكية إيف ميريام أن هذه الكتابات التي تنادي بتحرير المرأة هي أعمال دعائية وسطحية وخاوية وهذا ما يجعل مفهوم النسوية الإسلامية خيارًا مناسبا فالمتأمل للخطاب القرآني يجد أن الرجال يدخلون في منظومة المحاسبة الإلهية والتهذيب الاجتماعي وليس ذلك قاصرا على المرأة، كما أن جنسي البشرية ينظر إليهما كزوجين متلازمين ومتساويين في عبوديتهما المشتركة كما نجد القرآن صراحة يأمر بترك البغي في التعامل مع النساء والقرآن الكريم يدين بشدة النمط الأبوي المتسلط لتسيد الأب/ وأما آية {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} فيرى الإمام الرازي أن سبب نزول آية {وَلاَ تتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} أن النساء تكلمن في تفضيل الله الرجال عليهن في الميراث، فذكر في هذه الآية أنه إنما فضل الرجال على النساء في الميراث، لأن الرجال قوامون على النساء فإنهما وإن اشتركا في استمتاع كل واحد منهما بالآخر أمر الله الرجال أن يدفعوا إليهن المهر، ويدروا عليهن النفقة فصارت الزيادة من أحد الجانبين مقابلة بالزيادة من الجانب الآخر فكأنه والحاصل من هذا القسمة أنه لا فضل ألبتة وهو ما يقتضي التساوي والآية سيقت في المواريث فكأن الله يواسي النساء فيقول لهن إن التفضيل للرجال في الميراث سيعود عليكن في النهاية لأنهم سيقومون بالإنفاق عليكن والقيام على شؤونكن وهي قوامة رعاية لا قهر وتسلط على أن الذين يأخذون برأي القوامة المطلقة يؤكدون أن المقصود في الآية الجنس لا الأفراد لأن ثمة نساء فقن الرجال وقد قيل:
ولو كن النساء كمن فقدنا
لفضلت النساء على الرجال
كما يفهم من الآية أن الرجال قوامون على النساء من حصول المفاضلة المشتركة بينهما فلم يقل القرآن بما فضل الله الرجال عليهن بل بما فضل الله بعضهم على بعض فهناك فضل لكل طرف على الآخر وهذا ما يفتح مجالا للفهم في حياتنا المعاصرة التي عملت فيها المرأة وتميزت وأصبح لها دخلها الخاص وفاقت الرجل ويؤكد هذا قوله {وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} فلم يقل بما أنفق الرجال لأن في الزمن السابق كان الرجال ينفقون من أموالهم على النساء أما الآن فقد كثر إنفاق النساء من أموالهن وهذا إعجاز ظاهر في القرآن وعلم سابق بأنه سيأتي زمان تفضل فيه المرأة على الرجل وتنفق من مالها على بيتها وزوجها وتكون مشاركة في القوامة لأن كل من الزوجين يمارس القوامة في خصوصيته وبحسب طبيعته في نطاق تكاملي وهذا هو المشهود فكم من البيوت التي تقوم على المرأة التي هي الأم أو الأخت أو الزوجة ولها دورها الأساسي في تصريفها ولا سلطة للرجل فيها إلا السلطة المعنوية حتى أن آية {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} كما يرى الرازي أنه خرج مخرج التهديد للرجال في الإقدام على مضارتهن وإيذائهن وفي تفسير ابن عطية عن ابن عباس حمله على أن الأفضل يتحامل على نفسه لا أن يستوفي حقه كاملا أو يطلب الكمال من الآخر وقال ابن إسحاق الدرجة الإنفاق وأنه قوام عليها وعليه نعود للمربع الأول في مسألة القوامة وما تقدم ذكره من التفصيل لذلك على المرأة العربية في ظل مركزية الرجل أن تعيد النظر إلى نفسها من خلال الرجل كما أن على الرجل الغربي في ظل مركزية المرأة أن يعيد النظر إلى نفسه من خلال المرأة.