د.محمد بن عبدالرحمن البشر
وقعت عيني على قصة وقعت بين هارون الرشيد وأبي نواس، في غالب ظني أنها مختلفة، مفادها أنه في إحدى ليالي الشتاء شديد البرودة في بغداد كما هي حالنا اليوم، كان أبو نواس جالساً في مجلس الرشيد، فقال له الرشيد: هل لك أن تجلس هذه الليلة، وأنت عريان من الثياب، وأغراه بمبلغ كبير من المال، فطمع أبو نواس في عطية الرشيد، وقبل العرض السخي، ثم خلع ثيابه، وجلس طول الليل عريان يقاسي من شدة البرد، وكلف حراساً لمراقبته، ولما حل الفجر، ذهب أبو نواس على عجل إلى الرشيد، وهو بحالته تلك طالباً ما وعده الرشيد به، فقال له الرشيد: أخبرني ماذا رأيت في ليلتك هذه، قال: رأيت ضوءاً من بعيد جداً كأنه لهيب نار، فقال له الرشيد: قد دفئت منه، وليس لك حق فيما وعدناك، فقال له أبو نواس، يا سيدي، إنها بعيدة جداً لا أكاد أراها، وقد شارفت على الموت من شدة البرد، فقال له الرشيد: ليس لك عندنا حق، وأمر بإخراجه، فأخرجوه على حالته تلك، وبعد أيام، فكر أبو نواس، وقال: لابد لي أن آخذ ما وعدني به الخليفة، أو أكثر منه.
ودخل على الرشيد في ساعة من ساعات أنسه، فقبل يده، وقال: يا سيدي إن جلوسك في القصر في أيام ينثر فيها النسيم رقته، وتبث الخزامى عطرها، ويغطي الأقحوان سطح الأرض الذي اكتستها الخضرة، وإني أدعو سيدي إلى قبول دعوتي بقضاء ساعات في ذلك المنظر البديع، لتناول الطعام. فقبل الرشيد الدعوة، وفي ذلك اليوم المحدد، خرج الرشيد مع خاصته، وأوقد أعوان أبي نواس ناراً تحت شجرة، وأمرهم ألاَّ تنطفئ أبداً، وأحضر لحماً وخلافه ووضعه في الطناجر، فوق أغصان الشجر، وأخذ أبو نواس في مآنسه الرشيد، ومنادمته بسرد القصص العجيبة، وقول الشعر الرائق الذي ينسل من فمه كالماء الزلال، وبعد حين أحسَّ الرشيد بالجوع، فالتفت إلى أبي نواس، وقال: أين طعامك لقد بلغ منا الجوع مداه، فقال له أبو نواس: إنه يا سيدي على النار، وإذا أردت أن تتأكد من صدق ما أقول، فدعنا نسير بين هذه الزهور الجميلة لأريك ما أنا بصدد إعداده، فقام الرشيد مع أبي نواس، وبعد أن وصلا إلى تلك الشجرة، وجد الرشيد النار تحتها، والطناجر فوق غصون الشجرة مليئة باللحم وغيره، فالتفت الرشيد إلى أبي نواس، وقال: وهل يستوي الطعام وهو بعيد عن النار، فقال يا سيدي: وكيف لي أن أتدفأ في يوم شديد البرد وأنا عريان على نار لا أكاد أرى ضوءها، فتبسم الرشيد، وأمر له بجائزة جزله.
إن كان الرشيد قد باع وهماً من الدفئ لأبي نواس، وأبو نواس قد باع وهماً من الطعام للرشيد، على سبيل المداعبة، فإننا في حاضرنا ومع كل أسف نسمع ونعيش أوهاماً في أماكن مختلفة، ولنضرب مثلاً بإيران بعد الثورة، فقد دأبت على بيع الوهم لشعبها فترة طويلة من الزمن، أوهمتهم أن محاولة تمدد نفوذها في المنطقة سيجعلها أكثر تأثيراً في مجريات الأحداث، وأن ذلك سيجلب لها الرخاء والهناء والأمن.
وهَمُ صنعه رجال لبقاء نفوذهم في الداخل والخارج، ومع كل أسف أن هناك من ينساق وراء الأمل، ومن الملاحظ أن هناك في إيران من سعى إلى إضعاف الشعب الإيراني وزيادة فقره، ثم وضع بريق الأمل أمامه فيبقى يركض وراء سراب لا طائل من ورائه.
مثال آخر على بيع الوهم يقوم به الإرهابيون لجلب الشباب المتحمس إلى صفوفهم وفكرهم العقيم، وجمع المال، ومن ذلك الإيهام بأن مستقبلاً مشرقاً، ينتظرهم إذا قتلوا الأبرياء من الناس، فإذا ماتوا فإنهم سيذهبون إلى جنة الخلد دون حساب، مع كل آسف أن هذا الهراء قد وجد قبولاً لدى قليل من الشباب غير الفطن الذي رسم له خطًا ثقافيًا واحدًا، لا يحيد عنه، ولم يسمح له بتوسيع ثقافته، وقراءة الكتب التي لا تسير على هذا الدرب الخطير من الممارسات المهلكة، وأخافوهم أن قراءة تلك الكتب النيرة، إنما هي فخ للوقوع في الظلال والكفر، فأصبحوا متعلقين بما يقال لهم دون خروج عن النص الذي يرسمونه، فيصبح هذا الشباب وقودًا للمضللين الساعين إلى بلوغ مآرب خاصة بهم.
من حسن الطالع أن العالم مدرك لما تفعله إيران، وما يفعله الإرهابيون من نشر الأفكار، وزرع الفتن، وقتل الأبرياء، والتفريق بين الشعوب والثقافة، وهدم بنية الأوطان، فوقف العالم أجمع بحزم وعزم على التصدي لتلك الأفكار ومحاولة غلق أسواق بيع الوهم سواء في سوق وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، وتجفيف منابع تمويلهم.
وتقف المملكة العربية السعودية في مقدمة الدول التي تضرب بحزم في شل تلك الأفكار المضللة، وقد نجحت نجاحاً كبيراً في ذلك.