أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: سمعت من شيخي سماحة الشيخ عبدالرزاق عفيفي -رحمه الله تعالى- [ليس شيخي وحدي بل هو شيخ الأمة في المملكة العربية السعودية وفي مصر وعند كل متشوف له حسب ما سمعوا عنه في مشارق الأرض ومغاربها، وكان مرجعاً للشيخ ابن باز -رحمهم الله تعالى جميعاً]. وهو يتكلم عن الاجتهاد المطلق: أن الفقيه يقلِّد المحدِّثَ، وأن الأصولي يقلِّد الفقيه.. وكلاهما يقلد النحوي واللغوي والبلاغي.. إلخ.. إلخ.
قال أبو عبدالرحمن: هذا هو أكثر الواقع في الممارسة العملية لأسلافنا بالنسبة للاجتهاد المطلق من الذين يؤلفون الموسوعات الكبيرة في مسائل حقلهم العلمي، ويتميز مَن له أكثرُ من تخصصٍ علمي بالجودة وحسن التصنيف، وكثرة الصواب كالأئمة من أمثال الشافعي وابن جرير وابن حزم -رحمهم الله جميعاً؛ والمسوغ لهذا: أن المجتهد المطلق في كل مسائل الحقل الذي تخصص فيه لن يستطيع الاجتهاد المطلق في كل العلوم التي تخدمه؛ لأن هذا يخالف البنية البشرية نشاطاً وفراغاً واستيعابَ علمٍ ونشاطَ عقل.. أما في عصرنا هذا الذي سهل فيه حضور العلم فالاجتهاد المطلق فيه أيضاً متعذِّر؛ بمعنى أن يكون متخصصاً في كل العلوم المساعدة التي تخدم التخصص؛ وإنما أدعو إلى اجتهادٍ مطلقٍ في مسألة فقهية مثلاً يريد تحريرها؛ فقد بينت المنهج في ذلك من استحضار النصوص في المسألة، ثم يرجع إلى العلوم المساعدة مجتهداً بإطلاق في هذه المسألة الجزئية، غيرَ مقلدٍ ذوي الاختصاص في العلوم المساعدة؛ وبيان ذلك أنه إذا جمع النصوص الشرعية في المسألة الجزئية فأول ما سيواجهه تحقيق الثبوت؛ فههنا ينصرف عن الاستنباط الفقهي ويرجع إلى كتب الحديث المسندة، ويتعرف على أصول الرواية جرحاً وتعديلاً وضبطاً.. إلخ من كتب التراجم؛ فيعلم ما هو مؤثر أو غير مؤثر، ثم يرجع مرة ثانيةً إلى كتب مصطلح الحديث؛ ليعرف ما هو قادح أو غير قادح بإطلاق أو في هذا الموضع كأن تكون حال مَن رُوِي عنه بعد اختلاطه، وقد نص النقاد على أن روايته قبل الاختلاط صحيحة.. ثم يراجع أحاديث انتقدت بكتب شروح الحديث، ليعلم منهجهم في توجيهها، ولا يتعجل ولو أخذت منه هذه المسألة أشهراً؛ لأن هذا التعب مع تعبٍ آخر يليه، وتعبٍ ثالث في مسألة ثالثة.. إلخ سيريحه في مقتبل العمر بما وعته ذاكرته من تأصيل، وبما دونَّه في الطروس التي يرجع إليها إذا تلجلج وتلعثم.. ومعنى أنه لا يقلد ذوي الاختصاص: أنه يستحضر نظرية المعرفة البشرية بباء قبل الشين؛ وبالله ثم بها يعلم الأحكام العقلية من مصادرها الحسية التي تقتضي يقيناً أو رجحاناً أو توقفاً؛ وبهذا يكون متعلماً من ذوي الاختصاص، مستفيداً من علمهم من غير تقليد ما دام سلاحه الاعتصام بالله وتحقيق المعرفة البشرية مبكراً.. وهكذا الفعل إذا احتاج إلى خبرة اللغوي أو النحوي أو البلاغي أو المفسر أو عالم أصول الفقه أو المتكلم.. وقد جربت على مدى عمري منذ بلوغي الأشد أن طالب العلم إذاأعوزته خبرة النحوي؛ لتحقيق مسألة في التفسير مثلاً، ثم صدر عن قول جمهورهم أو أئمتهم بترجيحٍ مبنيٍ على أن الحق الأخذ بقول الجمهور، أو حسب الأعلم كسيبويه، أو الراجح في المذهب الذي يميل إليه إن كان بصرياً أو كوفياً أو تلفيقياً كالمدرسة البغدادية.. جربت أنه سيدعم مسألته في التفسير بتقليد النحوي فلا يكون مجتهداً في هذه المسألة الجزئية؛ ولكنه إذا تلقى العلم النحوي بمحاكمةٍ من غير أنوثة فكرية، وتناسى المسألة التفسيرية التي يبحث فيها، وصرف كل موهبته إلى تحقيق هذه الجزئية النحوية مستحضراً نظريتي المعرفة البشرية العامة والنحوية البشرية الخاصة: فإنه قد يجد أوهاماً يصححها، وقد سبق لي أن طرحت أمثلة كثيرة من وجوه الإعراب واللغة في هذه الصحيفة منذ كنت أكتب فيها، وفي جريدتي البلاد والمدينة وغيرهما في العقدين الأخيرين من القرن الثالث عشر الهجري، وفي برنامجي تفسير التفاسير.. وقد توسعت الآن مداركي منذ اطلعت في وقت متأخِّر على أنفَسِ وأوعَبِ كتابٍ في النحو، وهو شرح الخلاصة للإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى - مع استدراكاتٍ لي عليه في جدله الطويل، وحسبي ههنا طرحُ مسألةٍ واحدةٍ من المسائل النحوية التي احتجت إليها في تحقيق روايةٍ مصحَّفة من أثر موقوف على عمر -رضي الله عنه: (كذَبَ عليكم الحج.. إلخ) مع أن الرواية الحقيقية: (كُتِب عليكم الحج) بالتاء ذات النقطتين من فوق لا بالذال المعجمة؛ فلما أبحرتُ مع اللغويين والنحويين في توجيه هذه الرواية المحرَّفة غير الصحيحة وجدتهم يبنون على أشياء لا يقبلها نقل عربي، ولا يتحمَّلها عقل معرفي مدرب كجعلهم (كذب) اسم فعلٍ مع أنه فِعلٌ صريح، وبعضهم جعل (كذب) كلمة زائدة، وضموا إلى ذلك شواهد عربية غير مطابقة.
قال أبو عبدالرحمن: ولا يجوز ادعاء زيادة حرفٍ أو كلمة في اللغة عموماً أو في لغة الشرع خصوصاً؛ وإنما توجد الزيادات لغير معنى في ضرورة الشعر، وهي مستقبَحة يضيق بها عطن الشاعر، وتهبط منزلته فنياً.. والضرورة لا تُبنى عليها أحكام لغوية، وقد يُحتمل منها لفظ وُجِد في السياق فاختزله في القافية كأن يقول (قا) بعد كلمة تدل عليها مثل (قف)؛ فالقاف وحدها ليست حرفاً ليس له معنى، بل اختَزلها من كلمة مذكورة بضرورة شعرية، ولكن لا يُبنى عليها كلام العرب في سعة الكلام النثري، وبعض المتناولين لـ (كَذَبَ) يظن أنها زائدة.. ولا يحلُّ لمن جهل معنى حرف مثلاً في كتاب الله أن يدعي زيادته كقول بعضهم إن الكاف زائدة، في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (11) سورة الشورى؛ ليتخلص من وساوس قد تتبادر إلى ذهنه.. والمحقق أن الكاف غير زائدة وأن المراد بها نفي التشبيه، والمعنى ليس شِبْهَ مثله.. ومثلُ الله سبحانه وتعالى هو صفاته كما أن صورة الرحمن هي صفاته؛ لأن المثل مثولُ صفات الرب جل جلاله التي لا يحيط بكنهها إلا هو سبحانه وتعالى، والفِعْل بكسر الفاء وسكون العين لبلوغ الغاية من صيغة (فاعل) بكسر العين.. كما أنه سبحانه وتعالى يجعل ما أخبر به من صفاته ماثلاً للمؤمنين بالوصف المبين بلغة قوم كل نبي على الكمال والتنزيه المطلقين من غير تشبيه كيفي ولا تحديد كمي.. ثم أعود إلى مسألتي: (كذب عليكم الحج) فأجد إما زيادةَ دعوى كلمة (كذب)، وإما نصبَ كلمة الحج بدعوى أن كذبَ اسم فعل.. ومن المحال أن يُحوَّل الفعل الصريح إلى اسم فعل مثل (صهٍ) و(دونك).. ثم وجدتُ التعسف بدعوى عاملٍ في النحو يسمُّونه (الإغراء)، ويقدرون له دائماً (الْزم)، والنحويون مغرمون بعقد بابٍ أو بابين باسم الإغراء والتحذير، وليس في النحو عامل اسمه إغراء أو تحذير؛ وإنما العامل إما فعل صريح، وإما اسمُ فعلٍ، وإما مشتق يعمل عمل الفعل كاسم الفاعل الذي يسميه الكوفيون فعلاً؛ فإذا أسقط المتكلم العامل فليس في العوامل شيء محدد (بالتأصيل النحوي الصحيح) اسمه الإغراء أو التحذير، وله خصوصية عملٍ في النحو وإنما فيه عامل يُقدَّر بما يناسب السياق؛ فإذا قال مثل مسكين الدارمي: (أخاك أخاك) وقد رجع من معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- ولم يعطه شيئاً؛ فلا يقال ههنا: هذا فعل إغراءٍ محذوف تقديره (الزم)؛ فليس هذا في السياق؛ وإنما السياق يقتضي (اْصِدْ).. أي لَمَّا حرمك معاوية العطاء فاقصد أخاك الموسر الذي تثق به، وليس من الشرط أن يكون أخا نسبٍ، بل قد يكون أخا مودةٍ ووفاءٍ.. وإنما يليق تقدير (الزم) لو كان أخوه مريضاً أو مقعداً؛ ليخدمه ويراعيه، وليس فعل (اقصد) إغراءً يُبوَّب له في النحو؛ وإنما الإغراء مفهوم من جملة ورد فيها التأكيد بقوله (أخاك أخاك)، فسمِّه ما شئت إغراءً أو حثاً أو توصيةً مؤكدة؛ فكل هذا فهم عربي من جملة عربية وليس دلالة فعلٍ؛ فإذا جعل الإغراء باباً نحوياً من هذه الناحية؛ فيلزم أن يجعل لكل فعلٍ باباً؛ فيقول عن جملة (كرمُ عليكم المال من زيد) بفتح اللام هذا منصوب على الإعطاء، و(كرم) اسم فعل، والتقدير (كرم عليكم زيد الذي أنفق المال)؛ فهل في التلاعب باللغة أكثر من هذا؟.. ولقد أحسن من النحويين من أهمل الإغراء والتحذير في تأليفه.. وهكذا ليس في النحو إعراب بعامل التخصيص أو المدح أو الذم؛ وإنما فيه العمل بعاملٍ مقدَّر، ولا تُقدَّر إلا ما تعين تقديره بيقين أو رجحان كقراءة عاصم من القراءات السبعية قوله تعالى: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (4) سورة المسد. يقدرون لنصب حمالة فعل أذمُّ أو أتوعد أو أخص بذينك.. والراجح عندي ههنا أنها حال في المستقبل.. أي في يوم القيامة؛ بدليل قوله تعالى عقب ذلك: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} (5) سورة المسد؛ فهذه حالها في نار جهنم، وهي أيضاً جملة حالية جاءت تتمةً بالوصف للجملة الحالية.. ولو صح تقدير أذم أو أهدد أو أتوعد أو أخص بذلك كله حمالة الحطب: لم تتغير القاعدة النحوية من النصب بفعل مقدر.. ووصف المقدر بأنه ذم أو وعيد وصفٌ للعامل المقدَّر، وليس كل مقدر هذا معناه.. وقولك: (نحن العرب) بنصب العرب يقولون عنه: (منصوب على الاختصاص)؛ ولا يقولون: (منصوب على أنه يعني).. وهذا التقدير لا يحسن بلاغةً إلا إذا كنت في قوم ليس كلهم عرباً؛ فتقول: (نحن) ثم تستدرك بالتقدير في قولك (العرب) بالنصب.. أي أستدرك بأنني أعني أو أخص العرب، ولا أعني كل هذا الجمع.. وأما تأويل (كذب عليكم الحج) بمعنى الزموا الحج فهذا لو صح لا يُسمى إغراءً؛ لأن ذلك فعل أمر لا غير، وإنما الإغراء والحث للتوصية المؤكدة من معانٍ مستنبطة من النصوص الشرعية في العقبى الحسنة لمن سارع إلى الخيرات بامتثال أمر ربه؛ فذلك استنباط من النصوص، وليس ذلك عاملاً نحوياً اسمه إغراء.. ومع هذا فهذا التقدير النحوي لا يصح؛ لأن الخبر أولاً مُحَرَّفنالفعل (كتب) بالتاء، ولأنه دعوى باطلة بجعل الفعل الصريح اسم فعلٍ، أو بدعوى أشد بطلاناً كدعوى زيادة (كذب).. وأما النصوص الأخرى مثلُ (كذبك، وأكذبك.. إلخ)؛ فهذه شواهد من المجاز الأدبي لا اللغوي بنسبة الكذب إلى غير النطق، ولا تتسع مثل هذه العجالة لعرض تحليلها، ومجال ذلك في (مقياس المقاييس) الذي أتعاون مع بعض الإخوان في إنجازه.
قال أبو عبدالرحمن: وأما المشاركة في كل العلوم التي أعنيها فقد أسلفت أنها لا تُنسى بالقراءة العابرة، وإن ظن القارئ أنه نسي؛ وقد يستغرب القارئ هذا الحكم، ولكنني مُبَيِّن ذلك بأن قراءة القارئ منذ بلوغ مداركه على قسمين: القسم الأول قراءة استيعاب في الطلب وتكرارٍ وتفهُّم ومناقشة؛ وذلك في العلوم التي يتلقاها على شيخه قديماً، أو في الفصول المرحلية حسب التعليم المدني؛ فهذه إذا استوعبها فإنه يقرأ إضافة إلى ما علمه، ويستمر فيقرأ على المدى تراكماً؛ فيكتفي بقراءة التصفح الاختزالية، وفي حكم التصفح كتب التسلية التي لا تحتاج إلى جهد ذهني من كتب المحاضرات والمسامرات التي تجمع طرائف ثقافية.. وما لا يقبل التصفح باختزالٍ سريع إنما هو الروايات والقصص والقصائد والقراءة التأسيسية الأولى في العلوم كالفلسفة، والقراءة الاستيعابية هي الأسس لتقويم الشخصية العلمية الفكرية؛ فهذه لا تُنسى، واسترجاعها سهل عند اللبس، وأما القراءة التصفحية التي يستمتع بها طالب العلم مدة تصفحه فهي التي يظن أنه نسيها، والواقع أنها تبقى أصداءً في الذاكرة وتراكماً علمياً وفكرياً، وليس نسيانه لها إلا أنه لا يدري متى وأين تصفَّحها؟!.. ولكنه إذا تحدَّث أو أملى أو استرسل في الكتابة فإنها تنثال عليه معارف ثقافية بترتيبٍ فكري؛ ولهذا السبب يحصل للمؤلفين والشعراء لقاء كوقع الحافر على الحافر من ثقافة مشتركة اختزنها الذهن؛ ولهذا أيضاً لا تقع السرقات الأدبية في المعارف المشتركة، ولكن الذي يريد توثيق معارفه بعد كتابتها بالإحالة إلى المصادر فإنه يسهل عليه ردُّها إلى مصادرها وإن لابَ بباله أن هذا النص للعالم الفلاني أو الشاعر الفلاني أو في الكتاب الفلاني ثم لا يجده كذلك؛ فإنه بعد المراجعة والتدقيق تثبتُ المعلومات في ذهنه مدى عمره ما لم يحصل لذهنيته عوارض مرضية.
قال أبو عبدالرحمن: وموجز القول أن المشاركة في جميع العلوم ضرورة في هذا العصر، ومن لم يحقق هذه المشاركة فسيحصل له غَبْن كثير، كما أن المشاركة على قسمين: مشاركة ثقافية واسعة فيما يحسنه؛ فهذه هي التي تُثري التخصص.. ومشاركة ضحلة ليس فيها إلا تصور مادة العلم الغريب عليه وفق مبادئ العلوم العشرة؛ فهذه المشاركة على سذاجتها هي التي يحصل بها معرفة العلاقات والفروق بين المعارف؛ فيسهل عليه تصنيفها: ولا أستثني من هذه المشاركة الساذجة إلا المشاركة التوسعية إذا عرض له في تخصصه مصطلح؛ فإنه يتعب في مراجعة معنى المصطلح في كتب المصطلحات والموسوعات.. وما عسر عليه فهمه يسأل أهل التخصص حتى يدرك ما يدرك منه قدر الإمكان، ويكون له بعد ذلك من خبرته العلمية واللغوية والفكرية الاجتهاد في أخذ المصطلح تعريباً أو اقتراضاً، أو الاستغناء عنه بما هو في اصطلاح بني قومه.. وحسبي من القلادة ما أحاط بالعنق؛ لأن هذا الموضوع بحر لا ساحل له، وقد تكون لي معاودة في مناسبات أخرى، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -