د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** يتحدث مؤرِّّخو المرحلة عن صحوةٍ واحدةٍ شُيّعت إثر غروبها بتعداد مساوئها وتحميلها أخطاءَ ثلث قرن أورث تراجعاتٍ ثقافيةً ومجتمعيةً، وفي بعضها شيءٌ من الحق، كما فيها بعضٌ من التجني؛ فأُحاديةُ الرؤية وتغليب العاطفة مرضان لا عرضان، وفيهما تحيزٌ يصدُّ الموضوعية وقد يحجبُ الأفقَ الممتد بتعايش الرأيِ ومضاداته والحقبةِ وملابساتها.
** لم تهبط الصحوةُ الدينيةُ من سماءٍ قصيةٍ؛ فقد وُلدت في مدارسنا ومعاهدنا ومراكزنا العلمية ووسائطنا الإعلامية، وتمهَّد لها الدربُ حتى لم تعد ترى طريقًا سواها فأَوصدت السبلَ المتفرعةَ بجانبها، وأضحت الصوتَ الأوحدَ لوقتها، ولم تعبأْ بدروس التأريخ المؤمنة بالتجاور والتحاور؛ فانتهت أسرعَ مما ابتدأت وغاضت مناقبُها ففاضت مثالبها.
** يحتاج صانعو التأريخ إلى قراءة المسافة الفاصلة بين الأفق والنفق، وهي ليست مسافةً طويلة؛ فالعلياءُ مظلةُ الغبراء والغبراء مهبطُها، والتبادلُ بينهما سريع، والمنصفُ يدرك إيجابياتها وسلبياتها، والخلل في استئثار حركةٍ مجتمعيةٍ بالمشهد واعتقاد رعاتِها أنهم دائمون.
** لعله درسٌ شهد بعضُنا ولادتَه ووفاته وتزامنَه مع صحوةٍ أخرى لم تنل حقَّها من القراءة والاستقراء، وهي الصحوةُ الأدبية التي ابتدأت في وقت قريبٍ من بداية الصحوة الدينية (نهاية القرن الرابع عشر الهجري - أول الثمانينيات الميلادية)، وإذ استأثرت هذه بالمنابر الثقافية والصحفية فقد شغلت تلك المنابر التعليمية والإعلامية «المسموعة والمرئية»، وأوجد تزامنُهما لجاجًا صاخبًا أرهص لنظريات التصنيف والتصنيم، ولم يسلم من أوارهما من سعوا لتجاوزهما وأيقنوا بافتعالهما انطلاقًا من ألَّا مكان لمعادلة: «إما.. أو».
** وُلدت الصحوتان في وقتٍ متقارب ووُئدت إحداهما، ولم تتسنَّ للأخرى محاكماتٌ وأحكامٌ من جانبٍ معتدل، ربما لأن ثلةً من أربابها لم يزالوا في واجهة المشهد الثقافي، فاعلين ومتفاعلين، وإن خفت صوتهم.
** لكلتا الصحوتين معطياتُهما في الاتجاهين الصاعد والنازل، وإذ اشترك الغريمان في العبثية الحديّةِ التي خلَّفها صراعُهما فقد كان التوفيق بينهما عسيرًا، وكأنَّ الحداثةَ تعني الخروجَ على المألوف مهما كان ثباتُه، أو كأن الصحوة الدينية مثالٌ للانهزام الفكري، وفي الحكمين خداجُ محاكمةٍ أو ضبابيةُ موقف.
** لم تكن الصحوة الأدبية صحوةً ثقافيةً؛ فلم تؤسس مفاهيم أو تُكونْ مناهج، وتحتاج إلى من يعيد تفكيك نتاجها الذي أشعل وأشغل زمنًا، ولم تختفِ إفرازاتها كما حدث مع الصحوة الدينية، ولو توفرت لها قراءاتٌ محايدةٌ من خارجها ومن خارج المدرسة الصحوية الدينية لربما ظهرت نظريةٌ تمزج الصحوتين في مبنىً ومعنىً متآلفين؛ فنحن مثل كل البشر نستطيع التحاور دون التدابر، والتكامل دون الاجتزاء، والسير دون عثار.
** أقصت الصحوتان بعضَهما؛ فخلت المنابر الثقافية من الصحويين الدينيين إلا قليلًا، ولم يجد الصحويون الأدبيون منابر لهم في نطاقات هيمنة الطيف الآخر، وعاش المعتدلون بسكينةٍ حين نأوا عنهما معا، وفي مثل هذه الحالات ما أرقَّ الاعتزال وما أقسى النزال.
** الإقصاءُ وهم.