م. بدر بن ناصر الحمدان
جمعتنا الأسبوع الماضي أمسية شتوية مع بعض الأصدقاء، بعد مواسم الشَتَات التي فرّقتنا سنواتها، تغيرنا جميعاً، وبقي ما بيننا من «قِيم» أَلَّفْت قلوبنا، وعدنا لنلتقي بعد كل هذه الأيام التي مضت، وكان اسْتِئثارٍ الحديث ليلتها عن صديقنا الذي روى تجربته العملية في «أرامكو السعودية» والتي شارفت على النهاية، كانت رواية «فخر» و»اعتزاز» و»امتنان» عن بيئة عمل احترافية لا تتكرر كثيراً.
بالرغم من اهتمامي الدائم بثقافة الإدارة والقيادة ونظم العمل ومحاولاتي المستمرة لفهم تجارب الآخرين في بيئات عملهم الناجحة، إلا أن اللغة البسيطة والمباشرة التي تحدث بها صديقنا عن تجربته تلك جعلتني أكثر فهماً لمعادلة «الرضى الوظيفي» و»ثقافة الانتماء» التي أنتجتها تقاليد أرامكو العريقة وجعلته يرتبط «روحياً» مع مكان عمله منذ اليوم الأول وحتى الآن.
بعيداً عن المبادئ والقيم والأخلاقيات العملية التي يتم تداولها عن أرامكو وكبريات الشركات المماثلة، إلا أن ثمة معياراً رئيساً لعنوان تلك التجربة كان هو العنصر الحاضر في كل مواطنها واستنتجته من سياق حديثه عنها، ألا وهو «الاهتمام بإنسان المكان»، كان ذلك أساس البناء ومسار الطريق الذي أوجد ثقافة أرامكو التي ما زالت الكثير من القطاعات والكيانات تحاول الوصول إليها وجلّها أخفقت في ذلك لأن هذا المعيار لم يكن «أولوية» في إستراتيجية عملها.
يقول صديقنا إن ما دفعه إلى أن يبذل كل ما في وسعه لصالح عمله، هو أن عمله بذل كل ما في وسعه لصالحه هو كأحد أعضاء الفريق، هذه هي أسس النجاح بكل اختصار، هو يتحدث عن التزام كامل ودوريّ من أرامكو تجاه حصوله - دون عناء أو جهد - على كافة استحقاقاته، ومزاياه الوظيفية، وترقياته، ورعايته الطبية وأسرته، والتخطيط لبناء قدراته، والتكفل ببرامجه التدريبية، وتأمين مساره المهني، بالإضافة إلى وضوح قائمة الأعباء والمهام والإجراءات التي مكنته من التفرغ لأداء مهامه والإيفاء بمسؤولياته على أكمل وجه، «اشتغل، مالك عذر» كانت الجملة الأخيرة في حديثه عن «بيته الأول» على حد قوله.
بالمقابل كان أحد أصدقائنا المخضرمين والقادم من رحلة الثلاثين عاماً في قطاع عمل تقليدي موجود معنا، ويستمع لتجربة أرامكو بصمت، وهو متكئ في زاوية من المجلس، مُتلحِّف ببشته الشتوي، متلثم بغترته وسارح بالتفكير، وينظر بوجه بائس إلى موقد النار، محركاً بقايا الجمر بعود من حطب، وحين سألناه عن رأيه بعد ختام الأمسية، قال بصوت خافت وتَنْهِيدَةٌ مليئة بالألم: «الله المستعان» وسكت، ثم نثر ما تبقى من الشاي، ووقف، ونظر من النافذة، ورمى بالعود الذي بيده، ثم غادر دون أن يودعنا.
الطريق لاحترافية أرامكو يَمُرُّ بالإنسان أولاً، إذ لا يمكن لأي منظمة أن تتطور وتحقق أهدافها وتحظى بالانتماء والسمعة الحسنة، وإنسانها «مُهْمَل»، هذا لا يحدث أبداً.