سام الغُباري
كان «علي الهلماني» مغرورًا في مشيته، بأناقة شديدة، ورأس لا ينحني، يمضي مثل طاووس، يخترق أزقة حي «الجراجيش» في رحلة يومية صباحية إلى الشارع العام باتجاه عمله، وسط غروره البديع كان وجهه مبتسمًا، ضحكته لا تُنسى، من أعماقه كانت تتوهج مثل ضياء، وصفاء نادر، كان رجلاً بهوية كاملة غير مصطنعة.
وكنتُ صغيرًا، أطوف في أزقة مماثلة بنصف سروال، ألاحق الكلاب، وأربي القطط مع ابن عمي، ثم نتشاجر وندفعهن إليها ونستغرب أن الكلب لا يأكلهن، لم يكن ما شاهدناه في مسلسلات الكارتون حقيقيًا، وأتذكر أن «علي» قبض عليَّ متلبسًا بمحاولة اعتقال كلب وجرّه إلى فناء منزلنا، فنهرني بأدب ضاحك، وجرني أنا مقبوضًا إلى أبي!
كرهته، ثم خجلت منه حين عرفت أنه ابن الأم الطيبة «بائعة البرعي» جارتنا التي كنا نتسابق مع إخوتي لشراء كيسين من «برعيّها» الأشد لذة في تاريخ هذه الوجبة الرائعة، كانت تراني بابتسامة تشبه ابنها، وتقول: أهلًا بابن أختي، وتسأل عن أميّ، وأحدق في بركتها السابحة باللون البني الغامق، وبداخله فصوص من البازليا المطبوخة بمهارة استثنائية لو كانت في بلد آخر لصارت ماركة تطوف العالم وتتلاقفها الأيدي بسخاء لا يُقارن.
كانت تجلس في فناء منزلها، مثل عابدة تقرأ فناجين الشاي، تدور بعصاها داخل قُلّتِها المعدنية الضخمة، وشالًا أسود على رأسها، وانحناءة مؤمنة بداخلها كرم ظاهر، يلبسها لطف أم توزّع حنانها نحو كل الصبية الذين يأتون إليها سُراعًا في غبشة الصبح الأولى، يتلاحقون على كسب ما تحت يديها من دُرر تدفئ الروح والبطن والحواس.
وذات يوم رأيت «عليًا» بجوارها يساعدها في «مرضها» فقلت ببلاهة: أنت تشبهها كثيرًا، فضحك وقال: أليست أمي؟، وأجابتني من وراء وهن لطّفته رقتها: وأنت تشبه أمك! ففزعت من أنها كشفت وجه أمي في حضرة ابنها، فأدرك «علي» ذلك، وجُعِل يضحك حتى بانت نواجذه، وهربت يومها مضطربًا، أشتم كل شيء أمامي، وأركل كل حجر، وأسحق كل علبة عصير بقدمي.
بعد أعوام، بدأت أكتب، وكنت أراني أكبر في عين هذا «العلي» فسألني فجأة: لِمَ لم تعد تحب البرعي؟ وكان قاسيًا، هزّني بعنف، فعدت في تالي الأيام أزور أمه، وإن لم أكن أرغب بشراء شيء، فقط كنت أحنو إليها، أدنو من حنانها، وآكل إلى جوارها، وأتمتع ببهاراتها التي لا مثيل لها، تسعدني أحاديثها حول كل شيء، كان حُزنها يطوف حولها، لا تراه، لكنه بالغ الأثر في انكسار غياب حبيبها ووالد عيالها منذ زمن، فقرّرت البقاء على صغارها، وإخراج أنظف تربية وتعليم من حلال الخير والرزق والمهارة.
كانت عائلة نادرة، عظيمة، جيرانًا من أولئك الذين يختبئون داخل محار بعيدة، ويبقون داخلها جواهرًا مضيئة بالأدب والعلم، والتفاني والأخلاق، والرفعة.
توفيت تلك الأم الرائعة قبل عامين، كما توفي حبيبها الراحل قبل أربعين عامًا عسى أن يلتقيا وسط فردوس الله، ليلحق بهما نجلهما عليّ، قادمًا باشتهاء إلى جنات النعيم -إن شاء الله- وحضن أمه وأبيه الذي لم يكد يتذكر صورته جيدًا.
خسرناه في الدنيا وسط هذه المظالم الكبيرة، والعنصرية الطاغية، فرحل إلى عائلته، خفيفًا من أوزار الذنوب الكبيرة -إن شاء الله، طائفًا مثل روح متوهجة، محلقًا مثل عصفور بين كتفي والديه، يقعد على متكئ ناضج، وحولهم تتدلى أنعم الله التي لا حصر لها.
أوجعنا فراقك يا علي، ولن يبقى إلا جميل أيامك التي نتذكرك بها كأنبل قلب، لم تأتينا منك إلا كل خير وسلام، سنشتاق إليك، ونحن ندرك أنك الضحكة الأخيرة التي عبس بعدها وجه المدينة.
رحمك الله. وإنا لفراقك لمحزونون.