د. عيد بن مسعود الجهني
جاء تأسيس مجلس التعاون الخليجي عام 1981م في منطقة شديدة الأهمية والحيوية بالنسبة للعالم؛ وذلك لموقعها الاستراتيجي الفريد، ومحيطها النفطي الشاسع الذي يبلغ أكثر من (800) مليار برميل. وقد كانت المنطلقات واضحة في ديباجة النظام الأساسي للمجلس؛ إذ شددت على ما يربط دوله من علاقات خاصة، وسمات مشتركة، وأنظمة متشابهة، أساسها العقيدة الإسلامية، وإيمان بالمصير المشترك ووحدة الهدف.
وقد مرّ المجلس بعد تكوينه بمراحل مهمة استجابة مع ترابط دول المجلس العضوي، وواقعها التاريخي والاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي والاستراتيجي.
وقد واجه المجلس في بدايات ميلاده تحديات جسامًا في تلك الفترة من تاريخه؛ فالثورة الإيرانية كانت في عنفوانها عام 1979، وأعلن الخميني تصدير ثورته إلى دول الخليج العربي.
ثورة الخميني الذي وصل من باريس بعد انفراط حكم الشاه. وفي تلك الفترة من تاريخ المنطقة شعر الجميع قادة وشعوبًا بأن المنطقة تواجه خطر (الزعزعة) أمنيًّا واستراتيجيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا.
إذًا، وُلد المجلس على هاجس إعصار الثورة الإيرانية التي أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي (شرطي الخليج) آنذاك الذي تخلت عنه الإدارة الأمريكية جهارًا نهارًا رغم أن الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر قال مادحًا الإمبراطور السابق قبل سقوطه بشهور إنه يمثل (واحة الاستقرار في الشرق الأوسط).
ولم تخمد الثورة الخمينية (العارمة) فشبّت نار الحرب بين إيران والعراق، تلك الحرب المدمرة كان أثرها بالغًا على الأمتين العربية والإسلامية، وأحدثت انقسامات واضحة. ولم يبرأ ذلك الجرح العميق، حتى انفتح جرح أعمق أدهى وأمرّ (احتلال العراق للكويت)؛ ليدخل العرب والمجلس بدوامة أعمق خطرًا، ولكن المجلس استطاع الصمود أمام العاصفة، واستقراء الكارثة، وتمكّن من دحر الغزاة وتحرير الكويت، رغم الانقسام المشين الذي حدث في مؤتمر القاهرة الشهير 15 أغسطس 1990 عندما انقسم العرب فيه إلى فريقين، فريق ضد العدوان، وآخر - للأسف الشديد - انحاز إلى جانب المعتدي.
ورغم أن احتلال دولة الكويت الشقيقة كان امتحانًا للجميع، امتحانًا للزعامات، امتحانًا للقوات المسلحة، امتحانًا للإدارة والصحافة والإعلام، إلا أن المجلس الذي اعتصم أعضاؤه بحبل الله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران 104) استطاعوا على المستويَين الإقليمي والدولي أن يثبتوا للعالم أن المجلس (قوي)، وزاد تماسكه؛ إذ حس أعضاؤه بالخطر المشترك، وتحقق لهم ما أرادوا؛ فخرج الغازي مقهورًا مدحورًا من على أرض دولة الكويت.
ورغم تعدُّد وتنوُّع ظاهرة التنظيمات الدولية الإقليمية فإن المجلس يعد الأكثر نجاحًا واستقرارًا وبقاء بين المحاولات التي ظهرت في عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، وتضاءل أداؤها، بل توارت.
لكن مجلس التعاون دوله متجانسة، واقتصاداتها متقاربة، ودوله متجاورة، وتمثل قوة اقتصادية ونفطية يحسب حسابها؛ فصمد أمام كل التحديات، وحقق إنجازات تخدم شعوب دوله وإن كانت لم تلبِّ كل طموحات مواطنيه، وبرز دوره في المجال الإقليمي والدولي على جناح واحد؛ إذ شكلت علاقات قممه التقاء استراتيجيًّا لدوله، تبرز أهميته حتى اعتبر من المراحل البارزة في تاريخ الأمة العربية والإسلامية.
ورغم ذلك فإن البعض ينتقدون أداء المجلس وإنجازاته.. والمنصفون له قليل!! ورغم أنه لم يحقق لشعوبه سوى الحد الأدنى من التطلعات إلا أن تكوين المجلس في حد ذاته يعتبر إنجازًا، وبزوغ فجر جديد في منطقة الخليج العربي، من أهدافه أمن واستقرار المنطقة، بل رسم مستقبل إمدادات الطاقة للعالم أجمع.
كما أنه في الجانب الأمني جنَّب دوله الانزلاق إلى حروب طاحنة بين العراق وإيران، واكتفى بإدارة الصراعات من وراء الستار تارة، والمساعي الحميدة والتقليل من حدتها تارة أخرى. وهذه هي السياسة وفنها في العلاقات الدولية.
ويبدو أن المجلس يتبع هذه السياسة، أو هذا الفن من السياسة، مع العراق الواقع بين مطرقة التخلخل الداخلي وسندان التغلغل الإيراني الذي يهدد وحدته وكيانه، بل سيادته.
المبدأ نفسه تتبعه دول المجلس مع الملف الإيراني النووي؛ فهي تتفق على حقيقة خطر هذا الملف.. لكن هذا القلق من (القوة) القادمة المتمثلة في إيران يزداد حدة أحيانًا، ويتراجع أحيانًا أخرى، لكنه في السنوات الأخيرة نال الإجماع على ذلك الخطر، وزاده مشروع إيران الصاروخي الذي أصبح مقلقًا لا لأهل الخليج فقط، بل للمجتمع الدولي.
وعندما فجّر (نجاد) المفاجأة الإيرانية الكبرى معلنًا أن بلاده أصبحت ثامن دولة في العالم تتمكن من تخصيب اليورانيوم، وأنها تسير في الاتجاه النووي العسكري، فقد أفرز ذلك الإعلان موقفًا معقدًا ليس في منطقة الخليج العربي، وتحديدًا لدى دول المجلس، بل إن المجتمع الدولي بدأ بأخذ الأمر بجدية متناهية؛ فخرج من رحم ذلك الاتفاق النووي مع إيران الذي ألغى السيد ترامب التزام بلاده به.
وقبل ذلك الإعلان الذي بشّر نجاد شعبه بدخول إيران النادي النووي كان استعراض (القوة) في مناوراتهم في مياه الخليج العربي، وخرج من جعبتهم صواريخ وأسلحة متطورة (كرسالة) لأمريكا والدول المجاورة بعد أن تغلغلت إيران في صميم الشؤون الداخلية للعراق الذي قدمته أمريكا لإيران على طبق من (ذهب)!!
بيت القصيد أن المجلس الذي تصدى لهيجان الثورة الإيرانية والإرهاب وغزو العراق للكويت، (وتعايش) مع كارثة احتلال أرض الرافدين.. هذا المجلس جاء ليبقى حيًّا، ويقول: هاأنذا.. ولا ليموت كما ماتت اتحادات سبقته؛ لأنه يمثل ضرورة ملحة، وليس ترفًا لأهل الخليج المتعطشين للوحدة.
نعم، المجلس وُلد ليعيش رغم ما يبدو أحيانًا من التباين في المواقف، وصعوبة الإجماع على معظم القضايا المهمة.. وقضية الجزر الإماراتية الثلاث التي تحتلها إيران قبل تأسيس المجلس، التي لم تلتفت إلى البيانات الجماعية لقمم المجلس، ومطالباتها بشأن الجزر.
وكمتابع لتطور العلاقات الخليجية - الخليجية في حضن مجلسها أخرج بنتيجة مؤداها أنها راسخة والوشائج، قوية لا تنقطع.. والعلاقات الأخوية المتينة عبر العصور والأزمان بين شعوب هذه المنطقة وحكامها الذين يربطهم دين واحد ولغة وتاريخ وحدود ومصير واحد قوية الأركان، ثابتة البنيان،
لا تهزها ريح، ولا تؤثر عليها غوائل الزمن.
بينهم تواد وتراحم.. حتى أن أهل الخليج العربي قبل تأسيس مجلسهم عام 1981 بقرون عديدة كانت الحدود بينهم مفتوحة، يعيشون وكأنهم عائلة واحدة.
وعلى الرغم من أن الاستعمار حاول جاهدًا خلق شروخ في بنيان العلاقات، وصنع صدوع في تلك الروابط، إلا أنه عجز عن ذلك لمتانة تلك العلاقات وأصالتها.
ولذلك فإنه كلما هبت عاصفة على العلاقات بين دولة وأخرى من دول المجلس، مهما بلغت قوة تلك العاصفة، فإنها تعود إلى الهدوء؛ لتختفي في نهاية أمرها.
من هنا فإن تأسيس المجلس كان فجرًا جديدًا في تاريخ المنطقة، وواجه ما واجه من شدائد ومحن وتحديات تغلب عليها.
والدول قد لا تتطابق آراؤها في قضية واحدة حتى وإن كانت أعضاء في منظمة واحدة. وهذا ما حدث لسنوات في المجلس، وجاءت مبادرة سمو الشيخ صباح الأحمد الصباح - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته - لتوصد الأبواب أمام الأعداء، وتتوصل إلى اتفاق نهائي لحل الأزمة على يد سمو الشيخ نواف الجابر الأحمد الصباح، وبدعم صديقنا الرئيس الأمريكي السيد ترامب.
وما مرّ به المجلس في السنوات الماضية سحابة صيف عابرة، تتكسر وتتناثر على صخرة المجلس؛ ليعود إلى سابق عهده بتماسك وتعاضد في صف واحد كالبنيان المرصوص كما بدأ، بل قد يصبح أقوى متانة في جسده؛ ليخدم قضاياه وشعوبه وأمته وأمنه واستقراره وسلام العالم.
وما انعقاد القمة الخليجية الـ(41) في العاصمة السعودية الرياض في الخامس من هذا الشهر برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود إلا دليل قاطع على (قوة) المجلس، وهي حقيقة لا ينكرها إلا المكابرون الذين لا يدركون حقيقة ثوابتنا وإصرارنا على تحقيق أهدافنا وتطلعاتنا لمستقبل أفضل في هذا العصر، عصر (القوة) وفن السياسة التي طبقها المجلس منذ تأسيسه؛ فدحر كل متكبر ومتجرئ على أمن واستقرار ورفاهية دول المجلس ومواطنيه.
والله ولي التوفيق.
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة