د.عقل عبدالعزيز العقل
إن البيت المستقر نعمة من نِعم الله تعالى المعجلة لِبعض عباده في الدنيا، ولقد رُزِق الشيخ امرأة ضربت أروع الأمثلة في الوفاء والعطاء والبذل الجميل دون منٍ ولا أذى، إنها (خالتي حصة أم عبد الله) زوج والدي الكبرى، تلك المرأة المختلفة نمطاً وعقلاً وتفكيراً ونضجاً عمَن حولها من النساء، لقد عرفت حق زوجها فعظمته وأرضته وآنسته رغم صنوف الابتلاءات والأتعاب والمشاق التي مرت بها.
وتمضي الأيام وبعد أربع سنوات يتزوج الشيخ امرأة ثانية مِن المدينة المنورة (النخيل) وعلى الرغم من المسافة الشاسعة بين القصيم والمدينة؛ إلا أن أم عبد الله لم تتبرم أو تتضجر أو تطالب بالبقاء حول أهلها، لقد قبِلت بالغربة وآثرت رضا زوجها على نفسها، وذهبت رحمها الله بكليتها إلى هناك، واستقبلت الزوجة الثانية استقبال الملوك واحتضنتها احتضان الوالدة، وكانت تساعدها في كُل العوائق التي تقف في طريقها.
وَمِن خبر خالتي رحمها الله احتفاؤها الشديد بـ(جدي وجدتي من الأب) رحمهما الله، فقد كانت تحوطهما بالرعاية والكرم في مسكنها وتسعى حثيثة لإرضائهما.
وتمضي الأيام ويحتاج الوالد إلى مزرعة كعادتهم آنذاك في تربية المواشي والأبقار فتتولى كامل المسؤولية بِكُل فخر واعتزاز، وحيث إن الوالد الشيخ يتوافد عليه الضيوف مِن شتى مدن المملكة؛ فقد كانت مضرباً لِلمثل في الضيافة والكرم، حيث تتولى رعي الأغنام وذبحها وسلخها وطبخها بنفسها، ولا يقر لها قرار ولا تنعم براحة بال أو تأنس بِمنام حتى ترى والدي الشيخ مبتهجاً مسروراً.
وتمضي الأيام والسنوات، وتساند والدي الشيخ على مسؤولية العدل بين زوجاته الثلاث فكانت نِعم المساندة الشهمة التقية، حتى أسست بيتاً مِن الحكمة والعدل، بيتاً لا غيرة فيه ولا حسد ولا غل، وإذا رأت أولاد زوجها قبّلتهم واحتضنتهم وأضحكتهم، ونظراً لندرة المستشفيات آنذاك؛ فقد تولت مهام تمريض الجميع بِمَا في ذلك زوجات الوالد.
وتمضي الأيام وتلِد (بُنية معاقة) فقامت عليها خير قيام وأدبتها وصبرت عليها وصابرت في تعديل سلوكها وعاملتها كما تُعامل الأصحاء حتى ودعتها بالأمس، وفي هذا رسالة لِكل مبتلى بمعاق أن يصبر ويصابر ويرضى.
وتمضي الأيام ويُقرر الشيخ الترحال والسفر لِعدة بلدان مِن أجل الدعوة إلى الله، فلم تتأفف أو تتبرم رغم مشقة السير وندرة السيارات، لقد ساندته في ذلك لأكثر مِن ستين سنة مضت.
الناس يعرفون (الشيخ عبد العزيز العقل) ولا يعرفون تِلْك المرأة الطاهرة التي تقف معه خلف الكواليس، مؤيدة ناصحة توفر كامل الاحتياجات الأساسية له مِن ملبس ومطعم ومشرب بِكُل أمانة وصدق وإخلاص، بل حتى عطل السيارة في مشوار الدعوة إلى الله تشارك في إصلاحه، أذكر مرة في سفر ومع شدة الحر ارتفعت حرارة السيارة؛ حتى توقف الوالد وصار اشتعال بالسيارة كبير فأقبلت بِكُل شجاعة إلى تنزيل الركاب، ثم قامت بإطفاء الحريق ببسالة وشجاعة، ثم قامت بتعبئة (ماء الاديتر) وأصلحت العطل بكل ثقة وحصافة، ومثل هذا الموقف مواقف كثيرة يتعذر ذكرها.
وتمضي الأيام ويُقرر الوالد العودة للقصيم بعد 25 عاماً قضاها في المدينة المنورة وقُراها، وبالذات النخيل، ويتزوج والدي الثالثة، وتعاملها خالتي كما عاملت الزوجة الثانية بِكُل شفقة وحنان ونقل لتجاربها السابقة، تعمل هذا بِكُل تجرد لا سيما أنها تعرِف أدق التفاصيل عن والدي الشيخ؛ ما الذي يُحبه مِن المطعومات والمشروبات والملبوسات، وما الذي لا يُحبه، وما طريقة نومه في الليل، وما طريقة قيامه وما طريقة قيلولته.
وتمضي الأيام وتُبتلى بمرض فلذة كبدها (أختنا الكبيرة أم عاصم) رحمها الله، وتصاب بمرض خطير فكانت نعم المعينة الصابرة الراضية المؤمنة، رحلت أختي أم عاصم رحمها الله فجئتها معزياً فابتسمت! وقالت هي ليست وحدها في هذا الطريق، والابتلاءات التي عاشتها أم عاصم (متقفينا مثل ما تقفاها) يعني: سيأتينا الكثير من الابتلاءات، وهذه حال الدنيا وأقدار الله والمصائب ملازمة لنا ويختبر صبرنا حتى نرحل!
لقد كانت خالتي مدرسة ليست فقط مع ضرائرها، بل كانت مدرسة أيضاً حتى مع زوجات أولادها؛ حيث كانت تُشعرهن بالأمومة دون أن تتدخل في تفاصيل حياتهن مطلقاً!
وفِي آخر عُمرها عكفت على القرآن فأخبرتها عن وجود المصحف المعلم عن طريق (القلم القارئ) الذي يشير على الآية ويُعطي خاصية القراءة والاستماع في آن واحد، ففرحت بهذا الخبر أشد الفرح، وبالفعل بدأت تحفظ حتى أنهت جزء عم وتبارك والمجادلة.
كانت مُحبة للعفاف والحشمة، ولا تقبل لبناتها ولا لبنات جارتها إبداء الزينة أو شيء من المحاسن حتى أمام المحارم، إلا أن نُصحها كان بحكمة وذكاء دون أن تخسر أحدًا أو تجرحه أو تتكلم بظهره.
وتمضي الأيام وتُبتلى بوفاة والديها، فتصبر وتُصابر على ذلك ولا تجزع أو تُغير مِن عاداتها الإيجابية التي اعتدناها منها.
وتمضي الأيام وتشعر بتعب شديد في البلع ويكتشف أنها مصابة بمرض (سرطان المري)، استقبلت هذا الخبر بِكُل رضا واستمرت على المعالجة بعد أن أشرفت على الموت ونجاها الله تعالى.
ومن الشواهد على ذلك ردها الحكيم: حينما أخبرها الطبيب أن عمليتها صعبة جداً، وقد تستغرق ثلاث عشرة ساعة لاستئصال سرطان المريء، أخذ الطبيب بيد أحد إخواني وقال أريد أن أخبركم، أن هناك مضاعفات قد تحدث لها إثر إجراء تلك العملية ونسبة حياتها 15 بالمائة (يقولها له في السر)، فقالت خالتي أم عبدالله لا بد أن تخبرني بالضبط ما الذي تقوله لابني، فقال لها الأمر بسيط، فأقسمت عليه أن يُخبرها فقال لها عمليتك خطيرة ومن الممكن أن يكون لها أكثر من عشرين مضاعفة، منها ربما فشل كلوي، ضعف القلب وغيره واحتمال وفاة في نهاية المطاف فاستبشرت «وقالت الحمد لله هو من الله والذي من الله رضا».
ثم عادت بِفَضْل الله وتحسنت صحتها، وفجأة تُبتلى بفقد بصرها وتصاب بالعمى فلم تتسخط أو تشكُ، بل بقيت على سجادتها وكرسيها وعبادتها.
ويشتد بها المرض ويُقعدها مرة أخرى؛ ومع ذلك تأبى إلا أن تزور الوالد وتطمئن على صحته وعافيته، وكان كثيراً ما يبكي والدي حفظه الله أشد البكاء عندما يراها، وقبل قرابة اثني عشر عاماً استأذنت خالتي أم عبد الله في أن تتولى شؤون الوالد يوم الجمعة وتقوم بإعداد ملابسه وتطييبه، فأذن لها بذلك رغم أنها كانت مجهدة ومتعبة، لكنها كانت تتجلّد وتحتسب، فكان يرفع يديه نحو السماء ويشهد الله ثم يشهدها بالرضا التام عنها، إنها بِحق والدتي التي لَمْ تلدني، لقد استحقت وصف (الأم) للجميع بِلا استثناء ورحلت راضية مرضية إلى بارئها.
كانت لا تُفرق بين أولادها وأولاد زوجها مطلقاً، والهاتف دوماً بجوارها تتفقد جميع الأسرة بلا استثناء ذكورهم وإناثهم تشاركهم أفراحهم وأتراحهم.
إننا نلحظ في وقتنا المعاصر كثرة المشكلات الزوجية عند أدنى خلاف، حيث تبادر الزوجة إلى استخراج التاريخ الماضي عن زوجها بِكُل تفاصيله، ويرُد الزوج بمثله حتى يصل الأمر أحياناً إلى المحاكم والفرقة، لكنَ مدرسة خالتي أم عبد الله مختلفة تماماً عن هذا النوع من التفكير السطحي فهي تنطلق من مبدأ التضحية والوفاء والانسجام والرضا بأقدار الله تعالى. كما أن من أكبر عوامل نجاح هذا البيت الأسري عدل الشيخ بين زوجاته وأولاده، فلما حفظ حقوقهم أعطوه كامل واجباته.
وقبل وفاتها رحمه الله رأت ابنة خالها في المنام والدها رحمه الله وعنده ثلاثة أقواس كبيرة على شكل قصور مضيئة بلون أصفر قوي وهو يقول: هذا عرش حمد وهذا عرش مزنة وهذا عرش حصة رحمهم الله جميعاً ولعلها بشرى خير لها ولمن خلفها، روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا وما المبشرات قال: الرؤيا الصالحة».
لقد رحلت عن الدنيا بعدما قدَمت سِجلاً حافلاً وكبيراً بالعطاء والإنجازات ودروساً أخرى في العبادة والصبر، والحكمة في حل المشكلات ووفاءً نادراً مع زوجها ورفيق دربها وكُل من يمُت له بِصلة وكأنها تقول منذ دخلت عليه: أنا وقفٌ لك حتى أرحل.
عندما يمُرُّ طيف خالتي أم عبد الله أتذكر حديث أم سلمة -رضي الله تعالى عنها، هند بنت أبي أمية قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيُّما امرأةٍ ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة».
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلت المرأة خَمْسَها، وصامَت شهرها، وحَفظت فرجها، وأطاعت زوجَها، قيل لها: ادخلي الجنةَ من أيّ أبواب الجنة شئت».
كما أني أسلي نفسي وإخواني وأخواتي، وعموم المسلمين، بأمر الله الحتمي الذي كتبه على كل بشر، حيث قال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}.
وأن الغاية الكبرى التي يسعى الإنسان جاهداً طول حياته لتحقيقها والعمل على الوصول إليها، والتي أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحققها لخالتي (أم عبدالله) وجميع موتي المسلمين، قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} وقد ماتت على الإسلام رحمها الله، وقوله تعالى {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}.