د. سعيد بن محمد المليص
ما أجمل هذا الاسم صورة ومعنى ومحتوى! هذا الاسم الذي عشت به ومعه منذ الخامس عشر من شوال عام 1381هـ وحتى الثلاثين من شهر ربيع الآخر لعام 1442هـ. هذا الاسم الذي دعوت الله حينما ارتبطت به أن يجعل لي منه نصيبًا، وقد استجاب جل جلاله والحمد لله.
يا أروع النساء، وأحنهن، يا أكرم النساء في نظري وأصدقهن.
كنت بالرغم من كل الهنات في الحياة نعم الرفيق، نعم الزوجة، نعم القريبة.
إسعاد الآخرين كان ديدنك؛ العطاء كان نهجك، الصدق كان منهجك، عرفنا من خلالك معنى الكرم ومعنى الصدق والصداقة ومعنى القربى.
لم يكن يعني لك تقصير الآخرين ولو من الأقربين شيئًا، بل كان التماس العذر لهم أسرع وأولى من العتب لديك.
يومك يبدأ بالعطاء وينتهي به.
غيابك أحرج من بعدك لأن أسلوب الكرم والعطاء كان وما زال منهجاً صعب المنال في ضوء أسلوبك.
عطاؤك فاق الخيال لا سيما ما عرفته بعد رحيلك.
يا رفعة
لقد ذهبت بعد أن نفذت رغباتك في إيجاد ملاذات لأبنائك وبناتك في كل زاوية من هذا البلد الكريم! وكأنك كنت تودين أن ترحلي بعيدًا عني بعد أن تهيأت كل الظروف لحياة مليئة بالاطمئنان والفضل الكبير لك ولأبنائك.
يا أم محمد عشتِ لغيرك وعلمتني كيف أن هذا الأسلوب هو الباقي، والآن أشهد الله أن منهجك هذا هو الباقي؛ إذ إن الرصيد الحقيقي هو ما تركته في قلوب وخواطر من عرفك أو تعامل معك بعيدهم قبل قريبهم.
آه ما أشد الفراق! آه ما أشد وضع اللبنات على جسدك الطاهر! آه ما أشد تقبل العزاء في رفيقة دربي ومهجة قلب محمد وعدنان وأخواتهم وأبنائهم من أحفادك!
كنت لي نعم الرفيق في زمن الجدب، وكنت لي نعم الحامي بعد الله في زمن العطاء. لبست زي القناعة وألبست غيرك أفضل الأزياء وأجملها.
يا أم محمد عجيب ما سمعته من المعزين من غير عترتك من الثناء والإكبار، كانوا يتحدثون إلي ويواسونني وكأنهم يواسونني في حاتم الأنثوي! إنني أتذكر أن خلافًا بيننا لم يكن إلا على سعة كرمك وعطائك وتحمل قصور بعض أقاربك في تواصلهم معك. قلبك كان أوسع من نظرتي.
أتى للعزاء فيك جمع غفير من الرجال والنساء ممن عرفك أو سمع عنك بالرغم من الظروف التي تمر بها البلاد ولم يغب عن عزائك إلا من حالت ظروفه دون ذلك: دموعهم كانت تهطل أحيانًا، وألسنتهم لا تفتأ تذكر محاسن نهجك.
كم كنت فخورًا وهم يثنون عليك ويتعاطفون مع رحيلك! رحيلك أشعرني بدنو أجلي، وإذا كان هناك لقاء على الحوض فاللهم عجل به، فإن لي أحبة تاقت روحي للقائهم.
آه ما أحر الدموع وهي تهطل من أعين المعزين! ولكن ما أجملها وهي تذكر ما رأته أو سمعته عن مآثرك وصفاتك!.
وصيتك عجيبة (حين أموت فكل ما تركته وقف) نعم إنه توفيق الله لك بأن جعلك تقدمين أمامك ما قد يرفع الدرجات ويقيل العثرات، يا أتقى النساء وأكرمهن في نظري ذهبت وبقي الأثر الجميل والعطاء الجم. وأشهد الله أنك حملت الراية وحافظت عليها حتى ساعة فراقك.
حضر عزاءك حتى المكلومين من أهلنا لأنك عملة نادرة بالنسبة للجميع، أو كما تعودت أن أسمع من أمي رحمها الله بعد كل خلاف يقع بيننا (رفعة بنت بن صقر جُنيه وذهب أصلي).
أشهد الله أنك كنت كذلك،
ما أرق وأصعب الدموع وهي تنحدر من كل عين من عيوننا حينما نجتمع ونتذكر صولاتك وجولاتك، ودقة نظامك في كل مناحي الحياة! كانت الحياة هي مدرستك، ولم تكن القراءة والكتابة تعني لك شيئًا بالنسبة لأساليب الحياة.
كل همك وتفكيرك في إقامتك وسفرك هو: ما الأشياء التي تسعد الناس حين تقديمها لكل من تقابلين ....إلخ.
ولهذا صدق الشاعر حينما قال:
فالذكر للإنسان عمر ثان.
ها هي الجموع حضورًا ومهاتفة تشيد بمواقفك التي كنت حبًا بما عند الله تخفينها عني.
خُذلت أحياناً حية وميتة من بعض أحبائك فسمت نفسك تعففًا.
ما أجمل تلك الأيام التي قضيناها سويًا في جهاد، حلوها ومرها، وشهادة لله كان حلوها أكثر.
صبرت حينما كنا في حاجة للناس، ولم يدرك أحد عوزك، وشكرت الله حينما كان الناس في حاجتك، ولم تتباهي قط.
أذكر ذلك الجهاد في قريتي الحزينة وأنت تشاركين والدتي رحمها الله وبقية أفراد العائلة في حياة ريفية كان عمودها المرأة، وأذكر أيام الدراسة لي ولأبنائنا وأنت كنت العاملة الوحيدة في المنزل وكل زاوية من زوايا الحياة، واذكر عندما بدأت الضائقة تدب في حياتنا فقلت لي (تبغى الناس تقول راح يجيب الدكتوراة ورجع من غيرها) نعم نعم وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة، جهاد ليس له بإذن الله جزاء إلا الجنة. مشيت زمنًا طويلاً راجلة فلم تبتئسي، ثم ركبت العربات الفارهة وغيرها شرقًا وغربًا فلم تكابري.
ما زلت أذكر التزامك بالحجاب البسيط في بلاد الفرنجة وإصرارك عليه أمام زميلاتك المتأثرات بالغرب حتى عدن وتبعتك فلك على ذلك الأجر والثواب من الله، فقد كنت لهن قدوة حسنة.
إن عزائي فيك هي هذه الصورة الرائعة لك عند كل من عرفك ومن لم يعرفك إلا بتناقل الأخبار عن تدينك وكرمك وحبك للعطاء بصمت وسرية حتى عني.
أيضاً أن عزائي فيك هي هذه الكوكبة الجميلة من البنات والأبناء والأحفاد؛ فهم غذائي وسلوتي حتى يقضي الله أمره.
ما أصعب الفراق!، ولكن ما أعظم الذكر الحسن!
فالذكر للإنسان عمر ثان.
رحمك الله يا رفيقة العمر رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، وأثابك على ما قدمت خير الثواب، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.