رمضان جريدي العنزي
لم تيأس، بل قابلت مسؤولياتها الثقيلة برضى تام، امرأة مسنة تعيل بنات بناتها اليتيمات، وكذا بناتها المطلقات، تسكن معهن في بيت متهالك ليس فيه من الكماليات شيء، سوى أدوات قديمة، وفرش رثة، وملابس شبه بالية، قامت بشراء آلة خياطة مستعملة بثمن يقل بكثير عن قيمة الآلة الجديدة، تدور رحى الأيام وهي معها تدور، لتبقى معها في سباق أبدي وإصرار وتحدٍ، لم تسمح للاحباط أن يتسلل إلى روحها رغم معاناتها الكبيرة، بالرغم من بعض منافذ اليأس الذي كان يتسلل في بعض الأحيان لذاتها، هي كمن يعيش في بحر التيه وأمواج الزوبعة ولجة الضياع، وبالرغم من هذه الحالة التي وصلت لها كانت هذه السيدة النبيلة تشكل لليتيمات ظلاً وأنساً ومتكأ، في النهار تعمل على ماكينة الخياطة، وفي الليل تسرد عليهن مرويات بسيطة لكي تبسطهن وتزيح عنهن الحزن وهم الفقد والوحدة، تنقلهن بصوتها الحنون إلى خيالات جميلة، وسرد فاتن، وصور مبتكرة، هكذا هي معهن كل ليلة، تحاول أن تصنع لهن تآلفاً أسرياً، ولمة محببة، المطر المنهمر يطرق سطح البيت المتهالك نقطة نقطة، والمدفأة العتيقة المشتعلة في زمهرير الشتاء تعطيهن دفئاً ولو بالشكل اليسير، وبين فترة وأخرى تتسلل إلى أنوفهن رائحة شواء اللحم والذرة من إحدى الجهات القريبة المحاذية، ينمن ليلتهن وهن يحلمن بالسويعات الجميلة التي قضيناها في سماع حكايات الجدة، وعلى الرغم من الريح الباردة، فإن عيونهن تستسلم لنوم عميق بعد أن يعدنا في مخيلاتهن ترتيب الأحداث والصور، وبالرغم من المعاناة وشظف العيش، فما زالت هذه المرأة المسنة تخنزن في ذاكرتها أحداثاً مرة تشبه العلقم، تجيئها الذكريات الأليمة ذكرى ذكرى في كل وقت وحين، عرفت الأنين من كل الجهات، دمعها يغسل وجه الأرض، تتفجر الأشياء في داخلها لتلتحم في جسدها والمكان، تختزن في روحها إرثاً من الحزن، شاشة التأمل أمامها تبدو ممتدة إلى عوالم لا يسبر أغوارها سواها، صارت مثل رحى حجري يدور ويدور ليطحن الحب ليصبح حفنة يسيرة من دقيق بالكاد يكفي أفواه صغيرة جائعة، خط الصور يأخذها إلى أمكنة تمطر معاناة وأسى، لكنها تحاول أن ترتمي في أحضان الطبيعة التخيلية لتناجي وردها وعشبها وأغصانها الطرية، كفراشة في هيئة الليل تحاول أن تهبط، لتعود طفلة تلتحم بالماء والطين، تسير أحياناً بلا هدى، تبحث عن الأمكنة الطرية التي كانت، تتأمل في وجوه الناس، حتى تصل سور المقبرة الذي دفن فيها زوجها، تنقبروحها، ويدق قلبها بسرعة، ويملأ أطرافها التوتر والقلق، ومع امتداد نظراتها هنا وهناك، ينتابها شعور فظيع لا تعرف كيفيته وكينونيته، عندها تذرف دمعاً لا يستطيع شالها الأسود الكبير احتوائه، وكلما امتد بصرها نحو سور المقبرة، تختلط دمعاتها مع حزنها لتشكل غيمة من أسى، ولأنها اعتادت الحزن والدمع لهذا لم يعدا يشكلان لها مصدر خوف أو رهبة سوى لحظات عابرة، بل بالعكس أصبحا شيئاً طبيعياً عندها، وبالرغم من أحمالها الثقيلة بقى وجه زوجها مرتسماً في مخيلتها كأنه الضوء في العتمة، فكثيراً ما كان يعمل بتعب، يعينها ويؤنسها ويأتي لها بالحناء والثياب المزركشة التي تحب، وها هي الآن صارت من غيره وحيدة كقنبرة تحف اليتيمات وبناتها المطلقات بجناحيها الواهنين، تطوف وتتسلق مع خيال زوجها أسوار الماضي، وتلملم ما تبقى من الزمان الذي ولى لتحياه كذكرى تضج في مخيلتها كجذوة مشتعلة، وبالرغم من عذاباتها وحسرتها لكنها تحاول أن تخلق لليتيمات ولبناتها حيزاً من البهجة والفرح والسرور، عندما تخلى أشباه الرجال عن مسؤوليتهم تجاه زوجاتهم وبناتهم، هبت هذه المرأة الرجل لهن عصبت الرأس وانتخت، هذه المرأة رغم معاناتها المريرة، وسنها الكبيرة لم تنحن أمام العاصفة، بل صارت كأنها النصب، بينما تهاوى الذكور مثل ثلج في عز الظهيرة، وأنهاروا مثل كومة رمل، أبداً كأنهم ديكة تصيح على أكوام النفايات، صارت هذه السيدة لليتيمات ولبناتها مثل حقل قمح وحنطة وعرائش عنب، ولأنها قوية محتسبة صابرة، حتماً سيحيل الله عسرها يسراً، وسيفتح عليها أبواب خيره، ولن تحمل على كاهلها وجع السنين، ولن تصبح مشحونة بالذكريات الأليمة، ولن تعيش في الدوامة العتيقة، أمسها يطاردها، ويومها يعذبها، وكما تشابكت خطوط الحياة عندها، ستنسج لها ألواناً متعددة تداهمها بصور بهية، وفق امتزاجات عامرة مغايرة، ولن تتلوى روحها بالحاجة أكثر فأكثر، سيمتلئ إبريقها، وسيكثر زادها، وستكبر الزوادة، لأن الله مع الصابرين المحتسبين.