د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
طالعتنا هيئة التراث في منتصف الشهر الماضي بتوثيق مهم لخط أنابيب النفط القديم (التابلاين)، وتسجيله في سجل التراث الصناعي الوطني؛ ليروي هذا العملاق الصناعي الذي يمتد على مساحة تزيد على 1200 كيلومتر من شرق بلادنا إلى شمالها حكايات تصدير النفط، وبدايات النمو الصناعي في بلادنا. وذلكم التوثيق الوطني لآلية نقل النفط السعودي من منابعه في شرق بلادنا إلى مصباته في صيدا بلبنان والأردن وسوريا، مرورًا بمحطات محلية هي القيصومة ورفحاء والعويقلية وعرعر وحزم الجلاميد وطريف؛ لتنهل منه الناقلات العملاقة إلى دول العالم، يُعتبر من جدارات الفكر الاقتصادي السعودي، واستهلالاً ذكيًّا لإدارة الثروة النفطية التي توسدتْ بلادنا طيوبها بغزارة بفضل من الله. فيحمدُ لهيئة التراث الوليدة هذا الإنجاز الراشد!
وفي منتصف العام الماضي 2020 توشح خط أنابيب نقل النفط القديم (التابلاين) شكلاً احتفائيًّا آخر من خلال رصد تأليفي في كتاب صدر عن النادي الثقافي والأدبي في منطقة الحدود الشمالية موسوم بـ(التابلاين ودوره التنموي في منطقة الحدود الشمالية)، ومبتغاه توثيق يستهدف حقبة عبور شمالي إلى محطات التاريخ من أوسع أبوابها. ففي السرد الممتلئ تستفيض ذاكرة عقول تصف المكان وتصطفيه، ومعلومات وأخبار حفظها الزمان فسكنتْ ذكريات الناس. ففي متن الكتاب العملاق عن خط التابلاين مفتتح لتحضر جديد في منطقة الحدود الشمالية؛ فقد اشتُهر (التابلاين) ضمن مصفوفة من موجودات التحضر، واستثمار وهج المكان وموجوداته، واستحداث فرص العيش المتوافرة التي فرضتها متطلبات تشغيل خط التابلاين. أما مؤلفا الكتاب فهما القديران الأستاذان ماجد بن صلال المطلق، ومطر بن عايد العنزي، وهما «شاهدان من أهلها وإن اختلف زمنهما». وتوشح الكتاب التوثيقي تقديم فاخر لسمو أمير المنطقة الأمير فيصل بن خالد بن سلطان بن عبدالعزيز. ركز سموه على مقومات النهوض الممتد منذ تدفق الذهب الأسود في صحاري بلادنا الحبيبة. كما أثنى سموه على قدرات الإنسان هناك.
وموجز الكتاب رصد لذلك المنجز الاقتصادي الذي كان يحمل الطاقة النفطية، ولكنه حقق أهدافًا تنموية أخرى، صاحبت إنشاءه، من أهمها ظهور مراكز سكانية جديدة في منطقة الحدود الشمالية، لم يكن لها وجود قبل إنشاء التابلاين؛ إذ نُصبت أمام مراكز المضخات مدن حضارية، تتصدرها عرعر مركز الحدود الشمالية الإداري. ومن الإشارات اللامعة أن مستهدفات إنشاء (التابلاين) اعتلتْ منصاتْ عالية أخرى؛ إذ جذبت الكثير من بدو المنطقة الرحّل إلى أفياء الاستقرار عندما وفّرت لهم الخدمات البشرية الضرورية. وفي الكتاب وصف دقيق لافت للتضاريس الجغرافية التي يمرُّ بها (التابلاين) داخل بلادنا وخارجها. وهناك مرور توثيقي أيضًا على المناخ الذي يحيط بالتابلاين في فصول العام. ويشرق الكتاب بوصف النهوض الذي صنعه الاستقرار حين جاورت التابلاين عقول الناس وأجسادهم، وعندما حقق التابلاين أعلى صور المثاقفة في العقول البكر التي دخلتْ للعالم وعاداته المعيشية وهي لم تغادر بلادنا في ذلك الوقت. كما كان للعاملين الأجانب في التابلاين مكاسب ثقافية؛ إذ تعلموا العربية. فكما ورد في الكتاب، إنهم انتسبوا لمدرسة قرب بيروت لإعدادهم للعمل في شركة التابلاين قبل وصولهم لبلادنا. وكان العاملون يتجاوزون الألف عددًا. وأرى في منهجية الإعداد والتدريب لتلك الكوادر البشرية إضاءات تُحتذى!
وفيما بين عامَي (1983 و1990) توقَّف تشغيل خط أنابيب النفط التابلاين بعدما أسهم في صنع مدن حضارية جديدة في الصحراء، وبعدما اجتزأ واسعًا من اهتمامات الناس في تلك المواقع، وبعدما عانقت الأهداف الاقتصادية تفاصيل حياة المجتمع البشري في الحدود الشمالية في مسيرة إيجابية استمرت عقودًا من الزمن. وهناك في الكتاب الموسوعي جزء أثير لكتابات بعض المعاصرين لزمن (التابلاين)، رصدت التأثير والمؤثر بأسلوب جميل أيضًا.
فقد حمل التابلاين حياة الاستقرار، وأهداها بمحمولات شتى للإنسان في منطقة الحدود الشمالية التي كانت أرضًا خصبة ذكية، تحسن التلقي، وتتفوق في محاكاة الحضارة، وتعشق الجديد المبتكر، وتحب الحياة الجميلة.
وفي عموم الكتاب أسفار ملأى بتاريخ صناعي وطني، انشقتْ عنه حكايات النهوض والتنمية المستدامة والمثاقفة المحمودة التي حفزتْ العقول السعودية على التقدم للمنافسة الإبداعية والاندماج المتفوق؛ ولذلك كان تسجيل خط النفط القديم (التابلاين) في التراث الصناعي الوطني تأكيدًا على كل التفاصيل المبهرة التي وردتْ في كتاب (التابلاين ودوره التنموي في منطقة الحدود الشمالية).