د.أحمد بن عثمان التويجري
توفي صباح يوم الاثنين الثالث عشر من شهر جمادى الأولى 1442هـ الموافق الثامن والعشرين من شهر يناير 2020م الأخ العزيز والصديق الوفي الدكتور عبدالرحمن بن حسن الحسيني -رحمه الله رحمة واسعة وتغمده بعفوه وكرمه-. عرفته قبل ما يزيد على أربعين عاماً -رحمه الله-. كنا طالبين في مرحلة الدراسات العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان في جامعة كاليفورنيا في مدينة إيرفاين. كان شعلة من الحيوية والنشاط متميزًا في كل شيء، دراسته وتخصصه العلمي، ونشاطه الطلابي، وحضوره الاجتماعي. كان مشرفاً على المركز الإسلامي في الجامعة وكان مثالاً في البذل والتضحية والعطاء وصورة مشرقة لأبناء المملكة العربية السعودية.
توثقت علاقتي به عندما عدنا إلى المملكة، حيث عاد إلى جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وعدت إلى جامعة الملك سعود. وقد واصل تميزه -رحمه الله- فإلى جانب التدريس والبحث العلمي تولى مناصب إدارية في الجامعة كان آخرها منصب عميد شؤون الطلاب.
طغت عليه مورثات والده الذي كان من تجار الأحساء ووجهائها -رحمه الله- فترك المجال الأكاديمي واتجه إلى عالم الأعمال الحرة، حيث تولى رئاسة شركة المصفق التي كان مفترضاً لها أن تكون أول سوق مالية في المملكة، ثم أسس مع رفاق له شركة نعيم للاستثمار والوساطة المالية التي نمت وتوسعت نشاطاتها وأصبح لها حضور على المستويين الإقليمي والعالمي.
كان روحاً نقية طاهرة محباً للخير حريصاً كل الحرص على الصدقات وفعل المعروف. وكان يداً عليا في كل حين، كريماً غاية الكرم يصدق فيه قول زهير ابن أبي سلمى:
تراه إذا ما جئته متهللاً
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وقد كانت سعادته الكبرى كامنة في إسعاد الآخرين والعناية بهم، وبخاصة إذا كانوا من الضعفاء والمساكين.
كان محباً للشعر يحفظ من نوادره الكثير، وكان مثقفاً عالي الثقافة، وإنساناً متحضراً بكل ما تعنيه الكلمة، وصاحب ذوق رفيع في كل شيء -رحمه الله-. وكانت همته تزاحم النجوم، ولا حدود لأحلامه وطموحاته، في اتصال هاتفي بيننا قبل وفاته -رحمه الله- كان يحدثني عن بدئه في تأسيس جامعة رفيعة المستوى متخصصة في علوم الحاسب الآلي والمعلوماتية بالشراكة مع شركة مايكروسوفت الشهيرة، وكان يحلم بأن تكون جسراً لنقل التقنيات المتقدمة في مجال الذكاء الصناعي إلى العالم العربي. كما حدثني عن بدئه في إنشاء مستشفى ومركز بحوث طبي متخصص في مجال العلاج بالخلايا الجذعية وعن توصله إلى اتفاق مع عدد من كبار الأطباء المبرزين في هذا المجال في الولايات المتحدة الأمريكية.
اهتم بالتعليم في وقت مبكر فأنشأ مدرسة دار العلوم في الأحساء التي كانت أنموذجًا لما يجب أن تكون عليه المدارس الحديثة، وكان حلمه أن يطورها لتضم كلية بالاسم نفسه تضاهي ما كانت كلية دار العلوم في جامعة القاهرة من حيث الصيت والمكانة. وما زلت أتذكر كيف كان يقضي الأوقات الطويلة في التخطيط لها حريصاً على أن تكون بأرقى مستوى دون التفات كبير إلى ما قد تجلبه من عائدات مالية، وكيف كان حريصاً على استقطاب أفضل المعلمين لها من الداخل والخارج، تزويدها بأفضل التجهيزات وأحدثها -رحمه الله-.
عانى كثيراً من مرض السكر الذي استفحل حتى كفَّ بصره. ولم يؤثر ذلك فيه على الإطلاق، وإنما زاد نشاطه وتوسعت اهتماماته -رحمه الله-، وأهم من ذلك كان راضياً كل الرضى بقضاء الله وقدره، حامداً لله في كل حين، ولم أنس قوله لي عندما زرته أول مرة بعد أن كف بصره: إنه أصبح يرى الحياة بشكل أوضح وأعمق، وأن الله أنزل عليه سكينة وصبراً لم يعهدهما من قبل.
من نعم الله عليه أن من عليه بزوجة صالحة وأبناء وبنات بررة وإخوة كرام أوفياء كانوا سنداً له في مسيرة حياته الحافلة بالإنجازات، فلهم جميعاً ولأسرته الكبيرة صادق العزاء وخالص المواساة. كما أن العزاء للوطن كله فقد فَقَدَ واحداً من رجالاته الكبار ووجوهه المشرقة.
يا سيدَ النبلِ مهلاً والرّدى دُولُ
أهكذا مِثلَ حُلمِ الجَفنِ ترتحلُ
أهكذا دونما رَكبٍ نودّعهُ
تمضي وفي دمنا الأشواق تشتعلُ
كنتَ الضياءَ لنا في كلِّ مُظلِمةٍ
والأنسَ فينا إذا ما ضاقت السبلُ
وكَنتَ نهرَ النّدى والجُودِ أجمعهُ
ما مسّ كفكَ إقتارٌ ولا بَخَلُ
كنتَ المكارمَ في أسمى منازلها
والفضلَ والنّبلَ لا حيفٌ ولا خَطَلُ
وكنتَ فينا نقاءَ الرّوحِ مؤتلقاً
وطيبةَ القلبِ لا حقدٌ ولا دَغَلُ
وكنتَ بهجتنا في كلِ نائبةٍ
كأنك البشرُ والإشراقُ والأملُ
يا سيدي وفؤادي اليومَ مُنصَدِعٌ
ومهجتي بلهيبِ الفَقدِ تَكتحِلُ
أما ترفّقتَ والأيامُ موحشةٌ
والنائباتُ كماءِ المُزنِ تنهملُ
أما ترفقتَ كي نسقي ركائبنا
قبل الرّحيلِ ألا يا ويحه العجلُ
أما ترفقتَ كي تُشفى لواعِجُنا
وترتوي من سنا إشراقكَ المُقَلُ
تركتنا يا نقيَّ القلبِ داميةً
قلوبُنا من جراحٍ ليس تندملُ
تبكي عليك وما تنفك باكيةً
هيهات مثلك يُنسى أيها الرجلُ
رحم الله أخي وشقيق روحي أبا عبدالله الدكتور عبدالرحمن الحسيني وأنزله منازل الصديقين والشهداء والصالحين وجمعنا به في جناته إنه سميع مجيب، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.