د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
ملخص البحث
مثَّل كتاب الشيخ عبدالله القصيمي (هذي هي الأغلال) الصادر عام 1946م نقطة تحولٍ كبيرةً لا في مسار القصيمي وحده بل في المسار الفكري العام حيث احتشد للكتاب تأييدًا ورفضًا عددٌ من أبرز علماء زمنه ومثقفيه وإعلامييه، ومعظمهم من الجزيرة العربية ومصر ولبنان، وبخاصة أن مؤلفه قد عُرف - قبل ذلك - بتآليفه الإسلامية المنافحة عن السلفية ككتبه: (البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية 1931م، شيوخ الأزهر والزيادة في الإسلام، الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم، مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها، نقد كتاب حياة محمد، الثورة الوهابية، الصراع بين الإسلام والوثنية، كيف ذلَّ المسلمون؟) وصدر الكتاب الأخير عام 1940 م - وهو العام الذي أدى فيه القصيمي مناسك الحج - وقد توالت كتاباته المعتدلة خلال الفترة بين عامي 1931-1940م، ثم صمت ستة أعوام صدر بعدها كتابه التحوليُ (هذي هي الأغلال) ذو الثلاث مئة وثلاث وخمسين صفحة ليقلبَ الموازين ويسببَ الإرباك ويجعل مناوئيه كما مؤيديه يتبارزون في جدلٍ من جانبٍ واحد؛ إذ لزم القصيمي الصمت سبعة عشر عامًا 1946 - 1963م إلا من مقالاتٍ ومراسلات تعلقت بتنقله بين مصر ولبنان وبعض رؤاه العابرة.
ولعل من أهم الردود التي واجهت أفكار القصيمي ردّ الشيخ عبد الرحمن السعدي الموسوم: (تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله) وصدر فور نشر كتاب القصيمي، ويرى الباحث أن السعدي - بالرغم من غضبه الشديد على الكتاب ومؤلفه ورصدِه أكثرَ من سبعين مخالفةً شرعيةً واجتماعيةً فيه - لم يُكفر شخصه ولم يستعدِ عليه ودعا له بالهداية مثلما استعاد ماضيَه الإيمانيَّ الطيب.
ويحاول الباحث في ورقته تقديم صورةٍ لموقف السعدي من القصيمي بدءًا بمدخل تأريخيٍ للعلاقة الزمانية - المكانية بين الرجلين ممثلةً بتأريخ الولادة ومقرها، وكيفية معرفة السعدي بالكتاب، وأسباب رده عليه، وامتدادًا بمنهج السعدي وأبرز مآخذه، وانتهاءً بحكاية عدم التقاء الرجلين وقد جمعهما لبنان ومبررات ذلك، ومنتهيًا بخاتمة توضح مجمل رأي الباحث في القضية. وقد حرَص الباحث على الرجوع إلى الكتابين: (الأغلال والتنزيه) بوصفهما مرجعي ورقته ومتكأيها معززًا ذلك ببعض المصادر الأخرى الكتابية والشفاهية بما فيها كتاباتُه التي تناولت هاتين الشخصيتين وآثارَهما.
مدخل
يفصل الشيخ عبدالله القصيمي عن الشيخ عبدالرحمن السعدي ثماني عشرة سنة في الولادة تقدم بها السعدي 1889م على القصيمي 1907م، وتأخر القصيمي في وفاته تسعة وثلاثين عامًا (السعدي 1957م / القصيمي 1996 م)، وهو ما يعني تقاربهما عمرًا وإن امتدّت حياة القصيمي حتى تسعة وثمانين عامًا ميلاديًا في حين توفي السعدي عن ثمانية وستين عامًا ميلاديًا، والدلالة هنا مهمة في تثبيت موقف القصيمي من طرحه التحولي في كتابه (هذي هي الأغلال) الصادر عام 1946 م أي قبل وفاة السعدي بإحدى عشرة سنة حيث بقي كتاب الأغلال دون أن ينقضه القصيمي أو يتراجع عنه وإن لاذ بصمت تأليفي سبعة عشر عامًا أصدر بعدها مجلدين ضما عددًا من كتبه وهي: «العالم ليس عقلاً» عام 1963م وتبعه المجلد الثاني عام 1967م وفيه ثلاثة كتب: «عاشق لعار التاريخ» و»صحراء بلا أبعاد» و»أيها العقل من رآك»، وفيها تجاوزٌ لمرحلة «الأغلال» بصورةٍ جلية نأت به عن موقف المجتهد الذي يبغي «خدمة الحق وأمته العزيزة - كما كتب في الأغلال - ويأمل أن يشفع له ذلك في اجتهاده لدى من يخالفه « في بعض المسائل والشروح والتفاصيل» مؤكدًا أنه «مؤمن بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر» وختمه بأن الله هو «المسؤول أن يلهم الصواب والحكمة وأن يعين على بلوغ الغرض المنشود وألا يجعل العمل باطلاً ولا الجهد ذاهباً».
ولد السعدي في عنيزة، وقريبًا منه ولد القصيمي في «خب الحلوة»، غرب بريدة، وكلا المكانين في منطقة القصيم، وبينهما أقل من ثلاثين كيلومترًا، وحيث هاجر الفتى عبدالله القصيمي مبكرًا فلم يلتق بالشيخ عبدالرحمن السعدي في القصيم، ولم يُؤثر أن السعدي قد كاتب القصيمي في مرحلته الإيمانية الأولى التي أصدر خلالها كتبًا في الدفاع عن السلفية، مثلما لم ير الباحث ذكرًا للسعدي فيما اطّلع عليه من تآليف القصيمي، وهو ما يجعل دراسة العلاقة بينهما محصورة في كتاب (هذي هي الأغلال) للقصيمي وكتاب: (تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله) للسعدي، وهذا لا ينفي معرفتهما ببعضهما، وقد أشار الشيخ السعدي إلى اطّلاعه على كتب القصيمي المتقدمة على كتابه التحولي الجدلي الذي تبحث فيه الورقة.
كيف عرف السعدي عن كتاب القصيمي؟
لم يوثق الشيخ كيفية وصول كتاب (هذي هي الأغلال) إليه؛ إذ اكتفى -في مقدمة كتابه (تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله)- بالإشارة إلى أنه «وقف على كتاب صنفه عبدالله بن علي القصيمي سماه ...»، وفي رواية شفهية لسبط الشيخ (الأستاذ مساعد بن عبدالله السعدي) ما يرجح بعث الكتاب إلى السعدي من مكة المكرمة عن طريق تلميذه الشيخ عبدالله بن محمد العوهلي (1325 - 1408هـ)، وكان وصوله إليه بتاريخ 15 / 12 / 1365هـ (10 / 11 / 1946م) بهدف الاطلاع عليه مع الإيحاء إليه بالرد، ووُجد في نسخة السعدي المحفوظة من كتاب القصيمي تهميشات بخط يده، وفيها ما يرجح نية الشيخ في الإجابة والمحاجة، ولو كان للقراءة المجردة لاكتفى بتصفحه وإهماله أو وضع صيغة عامة على طرة الكتاب تحذر منه كما اتضح في هدف تأليفه الكتاب استقاءً من مقدمته، فليس مرجعًا يُحتاج إليه كي يضع تعليقاته التي شملت معظم صفحات الكتاب من ص 14 حتى ص 328، وتؤكد هذا رسالته إلى تلميذه الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز ابن عقيل (1334 - 1432هـ) الذي كتب:
«إنه سيبعث إليه من مكة بنسخة من الكتاب» فأجابه أنه «قد اطلع عليه..»، وثمة إشارة أخرى في «الرسالة التحذيرية من الكتاب» ضمّنها رجاءً للحكومة بـ»المنع الصارم لتسرب نسخ هذا الكتاب للمملكة» ص 231 وهو ما يوثق وصول الكتاب إلى الشيخ بصورة خاصة ولهدف محدد وهو الرد.
لماذا رد السعدي على القصيمي؟
من يتابع كتابات الشيخ السعدي رحمه الله ورسائله يلاحظ اللغة الهادئة التي تعتمر معانيها ومبانيها، وكثيرًا ما تدخل الشيخ لحل قضايا بدت شائكة ومتشابكة فانتهت بهدوئه وحكمته، وهو ما سعى إليه في كتابه هذا دون أن نغفل الأسلوب الحادّ الغاضب الذي اتسمت به محتوياته؛ فأنصف تأريخ القصيمي السابق وقال عنه: إنه كان «معروفًا بالعلم والانحياز لمذهب السلف الصالح وكانت تصانيفه السابقة مشحونةً بنصر الحق والرد على المبتدعين والملحدين فصار له بذلك عند الناس مقام وسمعة حسنة ... «... « وبعدما كان في كتبه السابقة معدودًا من أنصار الحق انقلب في كتابه هذا ...».
ويلاحظ في تقديمه كتابه «التنزيه» اقتناعُ الشيخ السعدي بأن كتاب الأغلال قد نَسخ وأبطل جميع ما كتبه عن الدين سابقًا، مثلما لم يُخفِ مفاجأته من هذا التحول الذي «أراع الناس»، ولم يشأ التفصيل في الأسباب التي دفعت القصيمي للتحول وإن عدّ منها الظنون التي تداولها الناس وتدل عليها القرائن: «ارتشاءه من بعض جهات الدعاية الأجنبية غير الدينية»، أما ما حدا بالشيخ لنقض منطق القصيمي في أغلاله فهو «واجب رآه على كل من عنده علم أن يبين ما يحتوي عليه كتابه من العظائم خشية اغترار من ليست له بصيرة بكلامه» وعزا ذلك إلى ما عُرف عن القصيمي من اتجاه مختلف قبل «ما طرأ عليه من الانقلاب».
وقد أوضح السعدي أنماط مستقبلي كتاب الأغلال بثلاثةٍ لا خوف على اثنين منهم وهما:
من له بصيرة ومعرفة وتفريق بين الحق والباطل ومعرفة بحقيقة الدين، ومن وقف على كتبه السابقة ثم على كتابه هذا ورأى ما فيها من الاضطراب والتناقض والتضارب وعدم الاستقرار، أما النمط الثالث الذي توجه إليه الكتاب -كما أوضح السعدي- فهم الذين لا بصيرة لهم يميزون بها بين الحق والباطل ولا وقفوا على تناقضه وعدم استقراره على رأي واحد فإنهم - كما كتب السعدي - يُخشى عليهم من الاغترار بكلامه لأنهم يسمعون عبارات مزخرفة واستدلالات مموهة.. الخ.
وأكد أن الكتاب أكبر دعاية للإلحاد، ومقاومة الدين وأهله، وفيه من البهرجة والتزوير التي جعلها في صورة نصر الدين ما يعد من أعظم النفاق والكيد والمكر للإسلام وأهله ... إلخ.
منهج السعدي في رده
سعى السعدي في مقدمة كتابه إلى «عدم إنكار ما في كتاب القصيمي وكلامه من المعاني الصحيحة المطروقة التي لم يزل أهل العلم يقولونها ويُبدونها من الحث على تعلم العلوم وفنون الصنائع النافعة وما فيه من ذم الجهل وآثاره الضارة وما فيه من تأخر المسلمين في الفنون العصرية وما فيه من وصف تفوق غيرهم في فنون المادة..»، لكنه أشار إلى أن القصيمي مسبوق في هذه الافكار، بل سبقه إليها أهل العلم وقالوا أكثر مما قال، ولم يبين «هذا الرجل» - كما وصفه - ما بينوه ولا شرح الداء الذي أصاب المسلمين حقيقةً ولا كيفية الدواء..
ومن الواضح أن غضب الشيخ تجلى شكلاً في وصفه بـ»هذا الرجل « و»هذا القصيمي» واعتماده الضمير الغائب حينًا مثل قوله: (واعلم أن مدار بحوثه الباطلة ...) والمستتر حينًا كما في: (وقد سلك أيضًا مسلك الدهريين ..) وتكرر هذا في مواطن كثيرة من الكتاب تقليلاً من شأن القصيمي وترفعًا عن تكرار ذكر اسمه، كما تعددت أساليب الذم بحق القصيمي: (فيا ويح هذا الكاتب القصيمي ...) وقوله: (وملأ كتابه من هذه المواضيع الخبيثة والوقاحة والجراءة التي لم يرتكبها غيره..).
وقد يرى المحايدون في مثل هذا الأسلوب خروجًا عن الموضوعية وإسرافًا في الاستعداء والاستعلاء، لكن مقارنته بما صنعه معاصرو السعدي والقصيمي وقت صدور كتاب الأغلال سيجدون أن السعدي كان أقلَّ حدةً وأكثر موضوعيةً ممن ردوا عليه من المشايخ وعلماء الدين؛ فالشيخ عبد الله بن عبد الله ابن يابس 1313 - 1389 هـ صرح بموقفه الضدي عبر عنوان كتابه الصادم والصارم في آنٍ واحد:
(الرد القويم على ملحد القصيم - مطبعة الإمام- عابدين- القاهرة- 1947م)
وكذا ورد في عناوين أخرى لمعظم من ردوا عليه من الجزيرة العربية تحديدًا، ومنها:
** بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال - الشيخ إبراهيم بن عبد العزيز السويح النجدي 1327 - 1369هـ- المطبعة السلفية - القاهرة - 1949م.
** تشخيص أخطاء صاحب الأغلال الرئيسية وبيان ما دلت عليه من الإلحاد والمذاهب الإباحية مع قصائد للشيخ راشد بن خنين 1344 - 1435هـ والشيخ صالح بن سحمان 1319 - 1402هـ والشيخ صالح العراقي «لم أجد تأريخًا لمولده ووفاته» وتقريظ الشيخ عبد العزيز بن باز 1330 - 1420هـ - مطبعة أنصار السنة المحمدية- القاهرة-1950م.
** الشواهد والنصوص من كتاب الأغلال على ما فيه من زيغ وكفر وضلال: الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة 1308 - 1392هـ- الناشر: عبد الله محمد بابا الشنقيطي.
وثمة ردود أخرى للشيخ محمد بن مانع 1300 - 1385هـ والشيخ زيد بن فياض 1350 - 1416هـ والشيخ عبد الظاهر أبي السمح 1300 - 1370هـ والشيخ تقي الدين الهلالي 1311 - 1407هـ» لعله كتبه خلال وجوده في مكة المكرمة والمدينة المنورة» وعنوانه: (مظهر الضلال في كتاب الأغلال) ولآخرين،
ولعل ما يُحمد للسعدي عدم حكمه بكفر القصيمي -بعبارة صريحة متجهة نحو شخص القصيمي بصورة غير ملتبسة- وإن ضمّن كتابه ما يوحي بكفر نصِّه، وجميل منه الفصل بين الشخص والنص، ولعله كان يأمل من عدم القطع بكفره أو إلحاده فتحَ الباب أمامه للمراجعة والتراجع، بل إنه دعا له بالهداية حيث كتب:
« .. وإلا فوالله إننا لنأسف أشد الأسف على انقلاب هذا الرجل، ونعد ذلك من الخسائر علينا حيث فقدنا هذا الرجل الذي مضى له من المقامات ونصر الحق ما لا ينكر.... ونسأل الله أن يرده إلى الحق، وأن يعيده إلى الإسلام بالتوبة والتنصل مما وقع منه، وأن يكتب كتابًا في رجوعه عن هذه المباحث الخبيثة ...».
** **
ورقة بحثية قُدِّمت إلى مؤتمر «الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي وآثاره ونهجه في الاجتهاد والتجديد والدعوة» - كلية العلوم والآداب - جامعة القصيم