د. إبراهيم بن محمد الشتوي
درج الدارسون على أن يجعلوا كلمة «الشعبي» صفة للشعر، فيقولون «الشعر الشعبي» تمييزاً له عن الشعر الفصيح، ويقصدون به الشعر الذي لا يلتزم بقواعد الفصحى، وتستخدم في صياغته اللغة الدارجة، وكان الأصل فيمن يقوله الأمية ثم توارثت الأجيال قوله بعد ذلك.
ويختلف الناس في تسميته، فمنهم من يسميه بالشعبي ومنهم من يسميه بالنبطي، وقد يكون نسبة إلى النبط الذين سكنوا في شمال شرق جزيرة العرب، ولم يكونوا يتحدثون العربية، وفي هذا إشارة إلى أنه ليس بعربي، وآخرون يسمونه بالملحون باعتباره من اللحن الذي لا يسير وفق قواعد اللغة الفصحى، ويسلك فيما كان يسميه القدماء بـ«لحن العامة».
على أن هناك من ينازع في صحة وصفه بـ«الشعبي»، ويرى أن «الشعبي» هو ما يتصل بالشعب، وهم الجماعة من الناس، وفي نسبته إليهم تلبيس للدلالة على انتشاره وقبوله بينهم، وهو ليس بلازم. كما يرون أنه يطلق على مفهوم آخر من الأدب، وهو ما تتوارثه أمة من الأمم من حكايات وآداب دون أن تكون منسوبة لمؤلف بعينه.
وإضافة إلى هذا المعنى لمصطلح «الشعبي» هناك معنى آخر يرادف معنى العامة أو العامي، وهو قريب من المعنى الأول، لكنه يتصل بطبقة الناس المستعملة له، وهو ما يقابل الخاصة أو النخبة، وعادة ما يطلق عليهم «العوام»، أي عامة الناس من غير تخصيص أو كما كان يقول القدماء «سوادهم»، ولا يقصد به اللون بقدر ما يقصد به الجماعة من غير تمييز.
ويتسع مفهوم الشعبي لكل ما يكون مقبولاً ومنتشراً بين الناس من الثقافة أو من مكوناتها كالطعام أو اللباس أو المكان ونحوها، فتوصف بعض الأطعمة بأنها شعبية أي تنتشر بين فئة من الناس.
وغالباً ما تنطوي هذه العناصر على معايير تتوافق مع الذوق العام سواء كانت مأكلاً أو ملبساً أو مركوباً أو أمكنة، فلا تند عنه سواء بالجودة أو الرداءة أو معايير السلوك والعادات، وتتسم بأنها ليست باهظة الثمن ولا زهيدته. ويمكن القول: إن التشابه والتقارب، والاهتمام بالغرض والكفاية دون غيره من العناصر التي تكون الشيء، والمحافظة على ما اعتادوه في حياتهم، وتوارثته أجيالهم هو أبرز ما يميز هذه المعايير.
ومن هذه الثقافة تتولد المعاني التي تؤثث فكر الشعب، وتعبر عنه أو يعبر بها عن نفسه أو عما حوله، فتصبح لغته، ومعرفته تتناثر في أمثاله ومجازاته، وتشبيهاته، وحكمه، وتعد من الشعبي كما في عنوان هذه المقالة.
تتجلى هذه «الشعبية» في منشأ هذه المكونات، أو في روايتها، بأن تكون منسوبة إلى رجل غير معروف الصفة والمكانة فهو من سواد الناس، وعامتهم، كالأمثال التي يتناقلها الناس فيما بينهم، وغالب أصلها في حوادث لا يعلم لمن حدثت، أو من أقوال لا يعلم من قالها، كما نجد ذلك في مجمع الميداني للأمثال، حيث نجد كثيراً منها منسوبة إلى رجل قال لامرأته دون معرفة هذا الرجل أو المرأة، أو رجل قال لصاحبه، أو امرأة قالت لزوجها كالمثل المعروف «لا عطر بعد عروس»، وذلك أن امرأة من بني عذرة قالته لزوجها في حكاية طويلة، ومع أنه يذكر اسم المرأة واسم زوجها، فإنهما لا يعنيان شيئاً لأنهما ليسا من المذكورين المعروفين والشواهد على ذلك كثيرة.
ويتصل بالأمثال الأخبار، والحكايات التي تتناقلها كتب الأدب، وتنسب إلى أشخاص مجاهيل أو قريب من ذلك، مما لا تعلم أحوالهم، وقد تكون هذه الحكايات مختلقة، اختلقها بعض الرواة للمسامرة والأنس أو الممالحة والظرف، ثم دونتها الكتب.
ومثل الأمثال الأشعار سواء مروية أم منشأة، من قبل أناس مجاهيل، وكثيراً ما تنسب لأعراب من سواد الناس لا يعلم شأنهم، وإن كان بعضهم يكون معلوماً ولكن الراوي أهمله إما لعدم معرفته به أو لعدم أهمية ذكره، فذكره وإهماله بالنسبة له سواء، فهو لا يغير في ما روي. من ذلك ما نجده لدى المبرد في الكامل حيث ينسب الأبيات لأعرابي غير معروف، كقوله: «أنشدت لرجل من الأعراب يرثي رجلاً منهم»، أو قوله: «قال رجل من بني عبد الله بن غطفان»، و»قال رجل من بني سلامان من قضاعة».
فهذا القول المنسوب لأعرابي غير معروف في رثاء آخر غير معروف كذلك، أو رجال من عامة رجال القبائل ما يؤكد أنهما ليسا من الخاصة، ولا المشاهير المذكورين، وإنما من العامة والسواد، ولذا فإن المعاني المنسوبة إليهما من المعاني الشعبية بناء على قائلها، أو مستعملها.
وتقوم صلة هذه الأنواع القولية بالمعنى أنها (الأنواع) مجال انتقال المعاني، وروايتها والحصول عليها، بحيث يتمكن العامة من استعمالها في حياتهم، ومن خلالها تنتقل بينهم، وتسير، فإذا كان مصدر هذه المعاني هم العامة والسواد، فإن وسيلة انتقالها بين الناس وتمكنها من الثقافة هي هذه الأنواع، ولا يعني هذا أنني أريد أن أقول: إن هذه الأنواع شعبية، فأنا لا أنظر إليها من هذه الزاوية على أقل تقدير الآن.