تمثل المناظرات الأدبية أحد أهم الفنون الأدبية والثقافية التي كانت سائدة في التراث العربي الإسلامي إذا لا تخلو في تلك العصور أي مدينة من منتديات أدبية ولعل المناظرات الأدبية التي أنتجت المعلقات الشعرية احد أهم ما يتكئ عليه التراث العربي في إبرازه للفنون الشعرية.. ومثل سوق عكاظ قديماً ساحة معروفة للمناظرات الأدبية والسجالات الشعرية. كما كان لدار الندوة والتي كانت مركز الحكم والسياسة لقريش العربية في مكة في مرحلة ما قبل الإسلام دور أدبي وثقافي كبير وهام. وما كانت حواضر الدول الإسلامية في الخلافة العباسية وما تلاها أو أثناءها من خلافات إسلامية ودول إلا شاهداً حقيقياً على قوة المناظرات الأدبية والإبداعية والشعرية وكبار الأدباء والشعراء لم يبزوا للعامة إلا من خلال تلك المناظرات بل بعضها وأهمها كانت تحظى بتشريف وحضور الخلفاء والأمراء وكبار القوم في تلك العصور. كما كانت الأندلس منارة للسجال العلمي والأدبي مما أنتج مؤلفات وكتب ودراسات كبيرة خلدها ذلك العصر حتى يومنا هذا في الفلسفة والأدب والتاريخ.. والمطلع على كتب التاريخ الاجتماعي والحكايات مثل العقد الفريد والمبتدأ والخبر والمقابسات وغيرها الموثقة للحياة الاجتماعية في أزمنة عربية وإسلامية سابقة يجد كيفية قوة تلك السجالات والمناظرات وما بعثته من حراك ثقافي وأدبي وعلمي كبير وكبير جدا وما نتج عنه لا زال شاهدا على قوة العلم والأدب في تلك العصور.
وفي عصرنا الحاضر قلت تلك الفنون التي تعبر عن تنوع أدبي وثقافي حيث سادت في الفترة من الفترات الأصوات ذات اللون الواحد مما أوقف كثيرا من تلك المناظرات رغم انه عرف عن الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه أنه كانت تقام في مجلسه بعض الحوارات والنقاشات التاريخية والأدبية، كما كان الملك فيصل رحمه الله يثير كثيراً من الحوارات والمناقشات والحوارات في جلساته المختلفة. ومثل مهرجان الجناردية للتراث والثقافة في الثمانينات حلقة واسعة من المناظرات الأدبية التي لم يكتب لها الاستمرارية إلى حد كبير . كما أن الجامعات السعودية شهدت في السبعينات ومنتصف الثمانينات الميلادية من القرن الماضي سجالات ومناظرات أدبية وفكرية وشعرية كانت مصدر اعتزاز وفخر بالحراك الأدبي والثقافي في تلك الفترة التي لا زال كثيرا منا يذكرها حيث كانت القاعات الثقافية للجامعات والمراكز والأندية الأدبية بل والمكتبات ساحة للمناظرات الشعرية والفنون الأدبية.. كما كانت الصحف أيضاً ساحة لتلك الأدبيات وكانت لها أصولها وتقاليدها. وكلنا يذكر تجربة صحيفة الجزيرة ومناظراتها ومجلة اليمامة ومجلة الفيصل بحواراتها الساخنة لموضوعات تمثل هاجس للمثقفين.. كما أن كثيرا من الشعراء ومواهب الفنون خرجوا من ساحة تلك الحوارات والمناظرات.. وفي السنوات التالية أي منذ منتصف الثمانينات وحقبة التسعينات الميلادية من القرن الماضي وحتى 2005 تقريبا من القرن الحالي كان هناك غياب كبير لتلك المناظرات ولم تستطع مقاومة المد الأصولي ذي الصوت الواحد عن تلك الساحات فأغلقت كثيرا من الأبواب التي كانت حاضرة ما قبل تلك الفترة ليدوم الصمت وينكفىء المفكرين والأدباء والشعراء والمبدعين على أنفسهم لسنوات عديدة. ومن ثم بدأت الصالونات الأدبية بالعودة للحراك الأدبي والمناظرات إلا أنها ظلت تواجه بعض التعقيدات سواء من المؤسسات الرسمية في ظل غياب التنظيم المنظم لعملها أو حتى من من اعتقدوا أنهم أصحاب الفكر الواحد فقط.. وفي الآونة الأخيرة لعلنا نشهد عودة تلك المناظرات وكما يعلم الجميع فرح الوسط الثقافي بطموح وزارة الثقافة وهيئاتها المختصة بعودة المناظرات الأدبية والسجالات الثقافية بين المختصين والمثقفين ونتمنى أن يكتب لها النجاح.. فالثقافة بفنونها لا تتطور وتبنى على الوجه الصحيحة إلا بسجالات ومناظرات ونقاشات بين أهل الاختصاص ولا تكشف الحقيقة إلا بسجالات ومناظرات بين أصحاب الاختصاص.ولعلي اذكر بحكم عملي الحالي ملحق ثقافي في إيطاليا تجربة جميلة يقوم بها معهد الشرق في مدينة روما وهو المعهد العريق في دراسات التاريخ والاستشراق والترجمة حيث لا يخلو أسبوع ضمن أجندة المركز من جلسات لنقاشات وحوارات ومناظرات بين أهل الاختصاص في موضوعات شتى كي تنمو المعرفة ويتوصل المتناظرون لحقيقة علمية ويعاد نقاش الموضوع بين أهله ومختصية حتى يقدم للعامة وهو مكتمل وناضج.. لذلك لا حراك أدبي وثقافي إلا بنقاشات ومناظرات .. ولعلي أثني على تجربة إمارة منطقة مكة المكرمة وبرعاية من صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين وتجربة إمارة منطقة القصيم بإشراف ورعاية مباشرة من صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز أمير منطقة القصيم في إقامة حوارات أسبوعية لنقاشات ثقافية وأدبية لأجيال مختلفة من أبناء المنطقة، وفي هذا إثراء للثقافة والعلم وتمازج بين الأجيال لتلاقح الخبرات واكتشاف قدرات شباب المنطقة وأهلها، إضافة إلى جهود لبعض الأندية الأدبية من تنظيم مناظرات وحلقات لأهل الاختصاص. كما اثني على تجربة بعض الصالونات الأدبية والثقافية الأشخاص من أدباء ووجهاء الذين يقيمون أيام أسبوعية تطرح فيها موضوعات للحوار والمناظرة بين اهل اختصاص وكذلك من عامة الناس.. إن المناظرة بحد ذاتها فن يرقى بالمجتمع ويصب في الاتجاه الصحيح لبناء معرفي ثقافي بدلاً من أن يكون حوار من طرف واحد بل يشارك الجميع في الوصول لتلك الحقيقة.. وأهيب بوزارة الثقافة الموقرة برئاسة سمو الوزير أن يكون لفنون المناظرة والحوارات المفتوحة مجال لاهتمام الوزارة بتنظيم رسمي وكذلك الأمر للجامعات في تنظيم مثل تلك المناظرات للارتقاء بالعلوم والمعارف.
** **
أ. د. عبدالعزيز بن علي الغريب - الملحق الثقافي في إيطاليا - أستاذ التغير الاجتماعي والثقافي في جامعة الإمام