كشف الناقد الشاعر الدكتور نايف الرشدان، أنه لا يمكن أن يكون هناك شيء اسمه «مناظرات أدبية» لسببين: أن المناظرات في حقيقتها تتم وفق اختلافات فكرية، رؤيوية حول موضوع أو موضوعات، فيما يبتعد الأدب مع اختلاف الذوق عن المناظرات والمحاكمات.
وتساءل كيف تُناظر مختلفاً عنك في توجهه الفني والأدبي وقد وصف تشكل ذلك المفهوم منذ «عهد الأدب الأزلي» ومن ثم في مجالس الخلفاء، بين أولئك الذين يوغرون صدورهم على (المتنبئ وأبي تمام وأبي العلاء المعرى..) قادحين فتيل نقمهم على المبدعين. وقال إنّ المناظرات تكون ثقافية لا إبداعية أدبية، فعالم الأدب قائم على التمايز والاختلاف وتتم المناظرات عندما يكون هناك رأى يقبل التحاور والتناول والتنازع، وغالب آراء الأدباء منتزعة من رؤى خاصة مرتبطة بحس فني وذائقة تتبع مناهج فنية، ومتى سمعت بمناظرة بين أدباء فهي ثقافية فكرية وليست أدبية والاختلاف لا يكون بين رأيين متفقين، وإنما هناك أوجه اختلاف وتباين في الرؤية والفكرة، ولم نسمع بأن تباينا أحدث تغييرا وتوفيقا بين مختلفين ذوقيا وفنيا. جميع الحواريات التي رصدتها في التاريخ الأدبي ناتجة عن أحد أمرين : إمّا اختلاف في الفهم أو اختلاف في الذائقة.
وقال للجزيرة الثقافية: عندما يكون هناك اختلاف في الذائقة لا مكان للمناظرة، فمن المستحيل أن تصب في أذن مقابلك ذائقة أخرى سيظل محتفظًا بذائقته التي تسكن وجدانه الفني. وإذا كان الاختلاف نتيجة سوء الفهم فهذا دليل على أن المتناظرين على طرفي نقيض «فاهم وغير فاهم»، أو كل منهما يفهم بطريقتين غير متوافقتين في التناظر والمناظرات حوار داخل معطى ثقافي يقبل التغيير والتأثير.
وتناول الدكتور نايف الرشدان (الموازنة بين أبي تمام والبحتري أو الموازنة بين الطائيين) للمؤلف أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي المتوفى عام 371 هـ الذي قُدّم فيه مقارنة بين الشاعرين، قائلًا: بالرجوع إلى مثال واحد (الآمدي) عندما وقف موقفاً مضاداً من أبى تمام، وجدنا أنه لا يفهم - أصلاً - بعض معاني أبى تمام! ولذلك فإن الخلاف معه ومحاربته وتأليب الوسط الثقافي و»بلاط الخليفة» على أبي تمام إنما كان قائمًا على مخالفته لما في توجهه الفني وليست مناظرة أدبية في مخالفة الآمدي أقوال أبي تمام في ممدوحه:
فتى جاءه مقداره واثنتا العلا
يداه وعشر المكرمات أنامله
يرى أنه قلل مكرمات الممدوح إذاً فهو في رأيه الفني المتواضع يتحدث عن العدد، بينما كان أبو تمام يتحدث عن العلاقة بين الممدوح والمكرمات مرتبطة كارتباط الأنامل باليد
ومثلها:
تَدارَكهُ إِنَّ المَكرُماتِ أَصابِعٌ
وَإِنَّ حُلى الأَشعارِ فيها خَواتِمُ
إِذا أَنتَ لَم تَحفَظهُ لَم يَكُ بِدعَةً
وَلا عَجَباً أَن ضَيَّعَتهُ الأَعاجِمُ
فَقَد هَزّ عِطفَيهِ القَريضُ تَوَقُّعاً
لِعَدلِكَ مُذ صارَت إِلَيكَ المَظالِمُ
وَلَولا خِلالٌ سَنّها الشِعرُ ما دَرى
بُغاةُ النَدى مِن أَينَ تُؤتى المَكارِمُ
هذا هو فكر الناقد السطحي حين يقابل مبدعاً، فكيف تكون مناظرة بين مبدع يطوف بخياله وفكره وإبداعه فضاءات لم يصل إلى هوائها ناقد مثل الآمدى.
الحقيقة أن أبا تمام كان يقول: إن منزلة المكرمات في الممدوح هي بمنزلة الأنامل من اليد، أي مُتلاصقة، ولم يكن هُناك شيء اسمه العدد. لذلك لا تستطيع أن تقيم مناظرات بليدة تقف على فهم سطحي مع فهم إبداعي.
وكشف أيضاً أن المناظرات لا تُعقد في (المسائل النقدية حول المنتج الإبداعي ) مُعللًا ذلك باختلاف الذائقة والأدوات قائلًا: ليس لهما الحق في عقدها وإذا كان هناك ناقدان يختلفان ويتناظران فعلى ماذا ؟! إن كان على (الذوق أو الذائقة) فليس لهما حقّ في ذلك، وإن كانت على (الأدوات) فليس لهما الحق أيضاً لأن لكل ناقد أداته، فلن تستطيع أن تضع قلماً أحمر في يد ناقد يحمل قلما ً أخضر، وليس لك الحق في حمل أدوات تناسب هذا الناقد وتنزع منه أداوته الأخرى فعلام التناظر والخلاف؟!
واختلافك مع صاحب النص لا يخدم العملية الإبداعية وعليك أن تتعامل مع الرأي والنص والفكرة بمعزل عن قائلها. فإن كان قائل النص والمنتج الأصلي مفقوداً، فأين المناظرة؟!!
عالم الأدب عالم مختلف، ليس من السهل - ولا من الصعب - أن تخوض في طرقه والحوار فيه وليس من غائية الحوار إقناع المقابل بموقف فني مخالف، لكن الإقناعية في المناظرة تتم في مناخ ثقافي فكري يقابل التحاور والتعاطي مع فكرة مادية أو معنوية أو رؤية تتناول موضوعات تقبل التفاوت والتباين والاختلاف، أما عالم الفن فهو عالم متماوج إنّه عالم مُضطرب . إضافة لذلك لا يوجد - أصلاً - ثبات في قواعد الإبداع، ولا في الرؤية الإبداعية النقدية. فقد يحمل أحدنا رأياً وبعد سنوات يغيّره فهل سننتقل إلى سنواته السابقة لمناظرته ثم نعود لتوجهه الحديث! وهل يتراجع..
وأكد الرشدان أنّ عمل المناظرات يكون فيما تفرزه (الأيدلوجيا) من تقابلات واختراقات وصدام فكري، لذلك فالمناورات الحقيقية تدور داخل المضمار الفكري المحتاج بدوره (للإقناع)، وصيغ التبرير والرصد والنقص والموازنات فيما لا يوجد في الأدب شيء اسمه «إقناع»، إنما يتمثّل فيه (هذه وجهتي الفنية طريقتي، رأيي، تناولي..) ولا تثريب عليّ، وبإمكانك الاختلاف مع الطرح، بالتالي هذا يقودنا إلى أن الاختلاف الفكري اختلاف مع الرؤية والمحتوى، وهنا نخلص إلى أنّ اختلافك هنا يقبل الحوار بينما المحتوى الأدبي والإبداعي لا يستدعي عقد مناظرة مطلقا.
وعندما أقول الأيدلوجيا تقبل مناظرة تُحاكم الفكر - وتماثلات الرؤى الشخصية أو تقاطعاتها - حوار فكرة مع الفكرة نتيجتها (حوار) فيه استجلاب لدليل مادي أمامه، فيتنازل أو يقتنع عن فكرته أو رأيه أو معتقده ولا تثريب عليهما وبإمكانهما أن يختلفا، وبالتالي فإن عقد المناظرة مجدٍ مع كون الاختلاف مفضٍ لخلق الدليل المادي. الذائقة لا تحتمل الوصاية، فالشعر والقصة والرواية ميادين لا تقبل السباق والمناظرات؛ كونها ترضخ لمستويات التلقي والقيم الفنية التي تنطوي على ذائقة هي جزء من بصمة الإبهام.
وخلص الدكتور نايف الرشدان قائلًا: المناظرات - أقولها ثانية - تحدث بين مُختلفين لا مُختلفات. مُختلفين في رأيين وكل منها يحمل قواعده وأفكاره وإرثاً خلفهما وتاريخاً قد يشوبه إما نقصاً أو خللاً في النص وضعف الإسناد، هنا تأتى مسائل المناظرة لأن فيها إثباتات مادية أو علمية، عدا ذلك لا يمكن أن تكون لك حاجة في إثبات مادي وعلمي، تبقى في مستوى الطرح الأدبي ومنهجه «سيريالي / تفكيكي /نقدي قديم / حديث ...» وغيرها مما تحمله النظريات، فمن غير الممكن أن تأتى حاملًا منهجك الحديث ليؤمن به الآخرون دون أن تضع أي اعتبار لنظرياتهم الحديثة وطرحهم للمفاهيم النقدية الجديدة وتردد: هذه النظرية يعتورها النقص!
جمال الأدب أن يكون الجميع في غرفة (واحدة) وعشرة بذائقة مختلفة.