د. عبدالحق عزوزي
رأينا الأسبوع الماضي أن مجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي قد أعلن إقرار واعتماد «وثيقة مكة المكرمة» وثيقةً مرجعية في المؤسسات الوطنية والإقليمية ذات الصلة بالعالم الإسلامي، بما في ذلك المؤسسات التعليمية والدينية والثقافية في بلدانهم كافة. وترسي الوثيقة قيم التعايش بين أتباع الأديان والثقافات والأعراق والمذاهب المختلفة في البلدان الإسلامية، وشددت على أنه لا يبرم شأن الأمة الإسلامية، ويتحدث باسمها في أمرها الديني إلا علماؤها الراسخون، وتؤكد على أن البشر على اختلافهم ينتمون إلى أصل واحد وهم متساوون في إنسانيتهم. كما تشدد الوثيقة على أن التنوع الديني والثقافي في المجتمعات الإسلامية لا يبرر الصراع والصدام، وتدعو إلى مكافحة الإرهاب والظلم والقهر ورفض استغلال مقدرات الشعوب وانتهاك حقوق الإنسان، وترفض العبارات والشعارات العنصرية.
ولا جرم أن هاته الوثيقة أقرت دستورا تاريخيا لإرساء قيم التعايش بين أتباع الأديان والثقافات والأعراق والمذاهب في البلدان الإسلامية من جهة، وتحقيق السلم والوئام بين مكونات المجتمع الإنساني كافة من جهة ثانية في إطار تحالف الحضارات والتنوع الثقافي... فالحضارة هي ذات طابع مادي أو هي تتصل بالماديات التي تتواصل وتتعاقب بعفوية وتلقائية من بلد لآخر مع توالي العصور، مما تكاد به أن تكون واحدة؛ في حين تعد الثقافة أحد مقومات الهوية بالنسبة لأي مجتمع؛ وهي تتشكل من المكونات الروحية والفكرية والأدبية والفنية التي تختلف من كيان لآخر، علماً بأن هذا الكيان قد يكبر أو يصغر تبعاً لمدى اتساع الذات وما يكون فيها من تعدد وتنوع.
فكل حضارة معينة تعكس المعتقدات والمبادئ والقيم التي تنبثق من روح الشعوب وتعبر عن روح الأمة التي تنشئها، فلا يظنن ظان أنه يمكن لحضارة معينة أن تولد من فراغ. وتتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، فهي بذلك نظام اجتماعي معين معقد ومترابط تحكم الماضي بالحاضر وتضم الفنون والآداب والمعتقدات والمعرفة والعادات والتقاليد... وقد أجاد العديد من المختصين في إعطاء تعاريف متميزة للحضارة، فهي: «الزائد على الضرورة من العمران» (ابن خلدون) و»لكل حضارة دستور أخلاقي، يتجلى في العقيدة وقوة النفس» (أوزولد شبنقلر) و»هي وحدة تاريخية (...) والاستجابة للتحديات عند الإنسان، فرداً أو مجتمعاً هي سبب نشوء الحضارة» (آرنولد توينبي)...
أما الثقافة فهي تشمل الأفكار واللغة والعادات والتقنيات والأعمال الفنية والأدوات، ويكون استعمالها لصيقا بالبشر الذي يتوفر على القدرة العقلية والتفكير المجرد، لذلك عرفها بعضهم أنها «خاص بالإنسان المفكر Homo Sapiens إضافة إلى أشياء مادية يستعملها بوصفها جزءاً لا يتجزأ من هذا السلوك»، ولا يمكن حصر الثقافة في تعريف معين، فقد أحصى كروبر Kroeber وكلوكهوهن Kluckhohn عالما الأنثروبولوجيا المشهوران، أكثر من 160 تعريفاً للثقافة منها أنها «الأفكار الذهنية» و»البناء المنطقي» و»الخيال الإحصائي» و»السلوك المتعلم» و»آلية الدفاع النفسي» و»التجريد انطلاقاً من سلوك».
لا يجب أن يفهم كلامي أن الحوار خاصة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية وحل الصراعات يكون بين الحضارات والثقافات، ولكن يكون بين ممثلي الحضارات والثقافات، لأن الحضارات والثقافات كيانات معنوية لا تتحاور فيما بينها، فأصحابها انطلاقاً من الموروث الحضاري والثقافي عندهم هم الذين يتحاورون فيما بينهم وهم الذين يمكنهم أن يغرسوا شجرة التفاهم والتحاور. فإذا فهم رجل الدولة أو رجل الحوار أو أي فاعل تاريخي أو سياسي ذلك، سيفهم أن محاوره يحمل معه أولاً مسلماته الحضارية والثقافية وثانياً مسلمات دولية هي عبارة عن قواسم مشتركة، إذا فهم ذلك جلياً ووضع كل محاور نفسه في نفس الآخر تم الحوار الجاد والهادف والناجح وتم حل المئات بل الآلاف من المشكلات الدولية والوطنية ولاحترمت خصوصيات كل مجموعة ولنقص الظلم والفساد ولتمت إعادة صياغة العديد من البارديغمات في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية. سألت يوماً رجلاً حكيماً تقلد في حياته العشرات من المناصب السامية وجاد وأجاد في بناء الدولة والمؤسسات وكون جيلاً بأكمله من رجلات الدولة الكبار عن سر نجاحه فأجابني أنه دائماً ما يضع نفسه في نفس محاوره لكي يرى كيف يفكر ويرى الأشياء ويحكم عليها، آنذاك يمكن أن يحاوره ويخاطبه لأن أرضية الحوار غير المرئية تكون قد بنيت...