د. محمد بن إبراهيم الملحم
كعادة الأمهات في تهنئة أولادهن بكعكة جميلة بمناسبة النجاح بعد الاختبارات فقد كتبت إحداهن على الكعكة بكل طرافة (وشفافية) عبارة: «مبروك عليكم يا غشاشين»، ضحكت حتى الثمالة لما وصلتني هذه الرسالة عبر الوتس أب، وشر البلية ما يضحك، و الواقع أن جماليات الأدبيات الساخرة تكون في شدة تطابقها مع الحقيقة، هذا التطابق الذي يجعلك تنصهر معها مرحا وأسى في نفس الوقت، وكما يقول فيلسوف الأدب والمسرح ديستوفيسكي: إن جمهور المسرحية لا يضحك إلا على ذاته لما يجده الناس من انعكاس للحقيقة الساخرة في ذواتهم وحياتهم. وكلنا يعلم الكم الهائل من النكات والطرائف التي ملأت منصات التواصل الاجتماعي حول هذه الحالة الاختبارية الجديدة كليا، وتدور كلها حول مساعدة الأهل لأبنائهم وبناتهم أثناء أداء الاختبار، ليس ذلك في بلدنا فقط بل في كل البلدان العربية، صحيح أن الوضع لدينا جيد حيث تمثل في تحييد قيمة هذا الاختبار النهائي بقدر الإمكان بتقليل درجاته إلى أقل قدر ممكن حيث هي 20% للمرحلة الثانوية و10% لبقية المراحل، ومع ذلك تراجحت حالة التأهب له بين كفتين متباينتين، فالطالب الجاد وأسرته الجادة كان الوضع لديهم فعلا مماثلا لذلك في الاختبارات الاعتيادية فالطالب يستذكر ويشحذ طاقته للحصول على أفضل درجة ممكنة، وأما الطالب غير الجاد أو الأسرة غير الواعية فظل الوضع فيها على ما هو عليه من جني الدرجات بأية وسيلة مشروعة أو غير مشروعة مع الأسف، وبطريقة على عينك يا تاجر.
ما يعنيني في هذا الموضوع هو ما سبق أن أشرت إليه من ضرورة اتباع أسلوب التقويم البنائي المستمر كبديل تام للتقويم الختامي عند التدريس عن بعد، فهو أفضل نموذج في هذا السياق، وأعتقد أن توزيع الوزارة للدرجات بتكثيفها في مظاهر التقويم المستمر هو اعتراف بذلك، وفي الفصل الدراسي القادم فيما إذا كانت الدراسة عن بعد هي الخيار، فأرجو أن تنحاز الوزارة أكثر إلى هذا الجانب وتلغي الاختبارات النهائية فعلا، ومع أن الدرجة قليلة إلا أن الإلغاء التام له أثره التربوي والتعليمي المهم، فهو أولا يعلن أن التقويم المستمر هو الأساس وهو الفيصل، مما يجعل المعلم جادا أكثر مع هذا التقويم، كما يجعل الطالب مهتما لعمليات التقويم المستمر ومعطيا لها ثقلها الأكبر، وثانيا هو يلغي فترة طويلة من الوقت الضائع آخر الفصل الدراسي تتمثل في أسبوعي اختبارات وأسبوع قبلهما للمراجعة (وبعضهم يجعله أسبوعان!) وهذا الوقت يمكن أن يستثمر بشكل أفضل للتدريس وللتقويم المستمر الفعال، فالتقويم البنائي المستمر يحتاج إلى مزيد وقت حيث يستمع المعلم إلى إجابة كل طالب ويناقشه ويستشكف مدى إلمامه بمهارات الدرس أو قدرته على حل مسائله، وهذا يكون غالبا بطريقة المشافهة المباشرة في التعليم عن بعد وهو ما يحتاج وقتا كافيا ليتحقق هدف التقويم.
المشكلة لها بعد سيكولوجي وسوسيولوجي، فعندما تقول «اختبارات نهائية» يتبادر إلى روعك أنها ما يعول عليها وأنها فصل الخطاب في النتيجة، حتى مع علم الشخص أن الدرجة قليلة للاختبار لكن لأنه «اختبار» فهذا التعبير يملك سيادة ذات خصوصية وشخصية اعتبارية لها سطوة نفسية تجعل منه مرساة التفكير ومحور الاهتمام. قبل سنوات عدة، أول ما ألغيت اختبارات الصفوف الأولية وتحول الأمر إلى التقويم المستمر حدث نفير لدى أولياء الأمور وتوجس كبير من هذا القادم، وكيف سيكون أمره، وتوقع كثيرون أن عددا كبيرا من الطلاب قد لا يتمكنون من تحقيق المهارات وبالتالي يمكثون في صفوفهم لسنة أخرى! وهذا التخوف إيجابي ونافع، فهو مثل «قلق الاختبار» إذا انعدم تماما أهمل الطالب وإذا تواجد بكم معقول (ولم يكن مرضيا أو زائد الحد) فإنه يعمل بشكل إيجابي لرفع مستوى الدافعية للعمل والنشاط وبذل الهمة لتحقيق نتائج مشرفة ترضي صاحبها. ومع ذلك زال كل هذا الخوف بل تحول إلى أمن وأمان وإلى حب وشغف بهذا القادم الجديد بعد أن أثبت التطبيق فشله في تحقيق غايات التقويم المستمر وكان نسخة سيئة للاختبارات، فتخرجت أجيال ضعيفة من تحت مظلة التقويم المستمر الأعرج، ولقد كتبت عن هذا مقالا في هذه الزاوية عدد 10 نوفمبر 2016 بعنوان «التقليم المستمر» وهذا رابطه https://www.al-jazirah.com/2016/20161110/ln34.htm وذكرت فيه كيف يجب أن يكون التقويم المستمر حتى لا يتحول إلى «تقليم» مستمر لجودة التعليم كما حدث، كما قدمت في خمسة مقالات تالية له عدة أفكار وتصورات وتوصيات حول الموضوع أنصح بالرجوع إليها من خلال رابط «أرشيف الكاتب» في النسخة الإلكترونية لجريدتنا الموقرة. وأقول اليوم: حاليا لدينا فرصة تاريخية أخرى ليعود التقويم المستمر في كل المراحل لا المرحلة الابتدائية فقط، وليكون تقويما «أصيلا» Authentic Assessment كما وصفته أدبيات التقويم التربوي المتقدمة فهل سنغتنمها؟
** **
- مدير عام تعليم سابقا