د.فوزية أبو خالد
جاءني سؤال النفط من أحد الصحفيين الحيويين في اكتشاف وإعادة اكتشاف مجاهل اجتماعية وثقافية بل واقتصادية بالمجتمع السعودي، وهو سؤال لأهميته أنتحله هنا ومحاولة إجابتي عنه مع التحية للزميل.
هل حقاً بعض الأسئلة يأتي متأخراً وبعضها يكون لا توقيت له وبعض الأسئلة لا تنسى بتقادم العهد.
لابد أن سؤال النفط بحمولته النفسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية بل والثقافية قد شكل هاجساً للعالم ولمنطقتنا بالمملكة وبأرض الخليج عموماً على مدى عقود، منذ لحظة اكتشافه بكميات تجارية وما قبل تلك اللحظة أي لحظة اكتشاف أهميته الصناعية أولاً ثم اكتشاف أهميته الاقتصادية والسياسية البالغة لاحقاً، قد شكل هاجساً متراكماً على تذبذبه. كما لا بد أن سؤال البترول كان وسيظل لوقت غير قريب يشكل سؤالاً مقلقلاً على مستوى رسمي وعلى مستويات مجتمعية متعددة، وإن طغى الصوت الرسمي في الحديث عنه طوال تلك العقود، إن لم يكن قد استفرد بذلك على حساب الأصوات الأخرى من المعنيين بالشأن النفطي اجتماعياً وثقافياً ومن العامة معاً؛ وهذا بعض ما أدى إلى انحسار الوعي الاجتماعي العام بالنفط وما له وما عليه، إلا باعتباره منجماً سخياً للدخل وكأنه لا ينضب ولا يقدم ولا يؤنسن.
ومع أنني حين أرى كيف لعب النفط دور النقمة في عدد من مجتمعات دول نفطية كالعراق وليبيا والجزائر من المجتمعات القريبة وكفنزويلا من مجتمعات بعيدة، بينما لعب في بعض أوجه تنموية وخاصة التعليم دور النعمة في مجتمعات دول الخليج النفطية، أشعر بحسرة لمضي تلك العقود دون إثارة أسئلة جذرية حول ظاهرة النفط في الدول الريعية وغير الريعية وتفاعلاتها المتعددة والمختلفة.
وقد حاولت فيما يلي معالجة السؤال ببعض المواقف والأمثلة المشتقة من بعض أشكال التعامل مع سؤال النفط محلياً وعربياً. كمثال على طرح سؤال النفط، كان لي مقال صغير بمجلة اليمامة وأنا للتو معيدة بقسم الدراسات الاجتماعية بجامعة الملك سعود وكان عنوانه في «الصيف ضيعت البترول»، ورغم أنه لم يقم بأكثر من طرح أسئلة أولية بدائية بالنسبة للضالعين في أطروحة النفط، فقد كان مقالاً مزعجاً وقتها منعتُ على أثره من الكتابة ثلاث سنوات. وهناك مثال أعمق وأهم وهو مثال مدن الملح» الخماسية الروائية للنفطي (تخصصاً) والأديب روائياً عبد الرحمن منيف، وقد قامت تلك المجموعة الروائية بتقديم رؤيتها الروائية لمرحلة معينة من التاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بتفاعلاتها متعددة الأبعاد التي اتخذ فيها النفط دور البطولة المطلقة في التحولات لذلك التاريخ، بما حاول العمل الروائي إثارة التفكير فيه وفي موضع النفط من باب الأسئلة ومن نافذة المخيلة.
ولنا أن نتذكر أن تلك الرواية صدرت خارج المملكة وخارج منطقة الخليج عموماً، على الرغم من أنها أدخلت صلب الحياة الاقتصادية النفط وانعكاساته على السرد الروائي. إذ إن الكاتب كان يعيش في باريس حين كتبها؟.
وقد كان الخوض في موضوع النفط وطبيعة تماسّه مع الحياة الاجتماعية والسياسية أحد التابوهات أو الممنوعات.. ولذلك على سبيل المثال حفلت أعمال الكاتب والروائي عبد العزيز المشري - رحمه الله - بسيرة تحولات القرى، وبخاصة في الجنوب السعودي من دون أن تنطق بكلمة نفط، رغم أن تلك التحولات التي تحدث عنها المشري كانت حبلى بتلك الكلمة. ويمكن أن يقال الشيء نفسه عن العمل الروائي لسعد الدوسري «الرياض - نوفمبر 90»، فذلك العمل الفذ تناول مرحلة حاسمة لحرب (دولية) قامت بمنطقة الخليج، ولم تكن تلك الحرب لتحدث بذلك الزخم الدولي وتدخل قوة عظمى كأمريكا طرفاً رئيساً في الحرب لولا بطولة النفط المطلقة على المسرح السياسي والاقتصادي في المشهد الدولي والخليجي، ومع ذلك لم تلمس كلمة نفط ملمس اليد في الرواية، وإن كنت كقارئ لا تنتهي من قراءة تلك الروية إلا وأنفاسك تتقطع من رائحة النفط ومحروقاته العنيفة والناعمة معاً.
بل إن النفط عاش كالحالة السرية فينا رغم تأثيره التفكيكي والتركيبي معاً في منطقة الخليج وناسها وبناء دولها الريعية، فحتى الكتابات التحليلية المكتوبة بأقلام سعودية وخليجية في هذا المجال قليلة ككتابات محمد الرميحي الأولية والبعيدة في محاولة تناول النفط تناولاً سوسيولوجيّاً سياسيّاً.. ولي تجربة شخصية في محاولة إنزال النفط منزلة علنية في التحليل الاجتماعي باءت بالفشل عندما رفضت مؤسسة أكاديمية تعليمية تقدمت لها المرة تلو المرة، بمقترح مفصل منهجيّاً لتدريس مقرر باسم أدبيات النفط الخليجي وآخر باسم التأثير السوسيوسياسي والثقافي للنفط.. من دون جدوى.
النفط ليس تهمة لندفعها، وليس شرفاً لندّعيه ونحرص عليه إلا بالقدر والكيفية التي يؤثر بها فينا ونتفاعل معه بها، ولو فحصنا هذه الكيفية ميدانيّاً فربما نصل لإجابة موضوعية عن أسباب الجفوة في العلاقة التفاعلية ذهنيّاً مع النفط، وفي البعد عن تحويلها إلى طاقة إبداعية في العمل الأدبي والثقافي. أما النفط فأستعير كلمة الراحل الملك عبد الله: (الله يطول عمره)… ريثما نبلغ في العلاقة به مرحلة الندية بدل الاتكالية المطلقة. وهذا ما يبدو أنه محور أساسي لرؤية 2030، كما أنه أيضاً تحدٍّ اجتماعي وثقافي بجانب تحديه الاقتصادي خاصة وقد بات التاريخ وشيكاً. فلا بد من أنسنة كلمة نفط وتطبيع العلاقة بها، ليكون أحد مصادرنا المعرفية وليكون مادة ثقافية قابلة للأخذ والعطاء، وليكون بالإمكان التحرر من هيبته وهيمنته وتحويله من مصدر وحيد ناءٍ للدخل القومي وللأهمية السياسية إلى واحد من مجموعة منابع تنبع وتصب في أرض الوطن.