وضعت بعض الدول حلولاً مختلفة ومتنوعة ضمن ما عُرف بـ«برامج الإصلاح الاقتصادي»؛ لمواجهة التحديات الاقتصادية الراهنة، والتخفيف من حدتها؛ لكن لم تجد تلك الحلول طريقها للتنفيذ بالكامل؛ بل تم تنفيذ بعضها بشكل مشوه؛ مماُ أدى إلى تفاقم المشكلات المقترنة بتلك التحديات، وتحول بعضها إلى أزمة مزمنة لبعض الدول. وفي هذا الإطار.. فإن التحسين الشامل، والتطبيق الفعال للحلول المطروحة، يتطلب مسؤولية مشتركة بين القطاعات الثلاثة: الحكومي، والخاص، وغير الربحي؛ من أجل النهوض بالمجتمع وازدهاره، وتحقيق أهداف الخطة التنموية الموجهة لتحسين الأوضاع الاقتصادية. ولعل «الوقف» هو حلقة الوصل الفعَّالة بين تلك القطاعات.
الوقف وحقيقته الاقتصادية:
الوقف هو عملية تجمع بين الادخار والاستثمار معًا، فهي تتألف من اقتطاع أموال عن الاستهلاك، ثم تحويلها إلى استثمار؛ بهدف زيادة الثروة الإنتاجية في المجتمع. وهو ما عبَّر عنه الفقهاء عند تعريفهم للوقف بأنه: «حبس الأصل، وتسبيل المنفعة»، أي: أن يبقى رأس المال محفوظًا؛ مع إضافة أرباح إضافية عليه. وهو ما يُعرف -الآن- بمصطلح «التداول»، أي: حركة وانتقال للمال، ومنع تجميده وثبوته في موضع واحد؛ بحيث لا يستفاد منه(1).
فالوقف في مضمونه الاقتصادي: عملية تنموية، وثروة إنتاجية. فلا يُباع، ولا يُستهلك، ويحرم الانتقاص منه، أو التعدي عليه، كما يمنع تعطيله عن الاستثمار. فهو إذن ثروة تراكمية، تزيد يوماً بعد يوم؛ بحيث تضاف -دائمًا- أوقاف جديدة إلى ما هو موجود من أوقاف قديمة.
ومن أجل تنمية الأوقاف، واستثمارها، وتوظيف ريعها في خدمة الأهداف التنموية للنهوض بالمجتمع، في مجالاته كافة، تم استحداث طرق وأساليب استثمارية عصرية، من ذلك: الودائع الاستثمارية في البنوك الإسلامية، والأسهم والسندات، والوحدات في الصناديق الوقفية، والوقف الإلكتروني. وهي أشكال حديثة تنسجم مع حقيقة المضمون الاقتصادي للوقف. وقد عُرضت هذه الصيغ على مجامع الفقه الإسلامي، ووضعت لها تلك المجامع الضوابط الشرعية التي تحكم التعامل معها.
الوقف ودوره في التنمية الاقتصادية:
اهتم المختصون بالوقف بربطه بكل ما هو جديد في عالم الاقتصاد؛ من أجل الانفتاح على صيغ أكثر نفعًا، وأضمن استمرارية للصدقة الجارية، ولا شك أن هذا الانفتاح كان له الأثر البالغ في التنمية الاقتصادية للمجتمعات. وفيما يلي نعرض بشيء من الإيجاز لدور الوقف في هذه التنمية:
1 - يعمل الوقف على تعزيز الموازنة العامة للدولة؛ من خلال تكفله بكثير من النفقات التي تثقل كاهل الدولة، وتعد في الوقت نفسه من أهم العوامل التي ترقى بالأمة إلى ركب الحضارة والتطور.
2 - يسهم الوقف في العملية الإنتاجية، وتوفير فرص العمل، والتخفيف من عجز الموازنة، وتنشيط التجارة الداخلية والاقتصادية والبنية التحتية في الكثير من المناطق، وكذلك دوره في تخطيط المدن وإنشائها.
3 - يعمل الوقف على إيجاد مصادر دخل للفقراء والمساكين والعاجزين عن العمل والأرامل والأيتام وغيرهم من المحتاجين؛ مما يغطي حاجاتهم الأساسية، وهذا ما يؤدي إلى تحسين مستوى المعيشة لهذه الفئات من المجتمع؛ مما قد يزيد من إنتاجيتهم الاقتصادية.
4 - يعمل الوقف على تنمية رأس المال البشري؛ من خلال توفير يد عاملة متخصصة ومتنوعة في مجالات مختلفة بتنويعه لأشكال الوقف والجهات الموقوف عليها(2).
وسائل النهوض بالأوقاف:
لابد من رسم الخطوات اللازمة لتنمية الأوقاف واستثمارها، واستعادة صحتها في ضوء الواقع المعاصر؛ من خلال منظور علمي وعملي، تتسع فيه الرؤية المستقبلية؛ لتشمل كل الظروف البيئية ومقتضياتها، وقابلية نظام الوقف للتفاعل مع سياسات الإصلاح الاقتصادي، والتي أصبحت الآن ضرورة حتمية. ويمكن أن نلخص الخطوات العامة التي نعتقد أنه لابد منها في هذا السبيل على النحو التالي:
1 - حماية أصول الأوقاف، والمحافظة عليها من الغصب والضياع والتعطيل، وحفظ سجلاتها.
2 - مراجعة السجلات القديمة للأوقاف؛ لتحديد الأملاك الوقفية، وتسجيل ما يحتاج إلى توثيق رسمي، وإعادة ما كان غائبًا، أو تم الاستيلاء عليه.
3 - رفع الكفاءة الإنتاجية للأموال الوقفية إلى حدها الأمثل؛ من أجل توفير أكبر قدر من الإيرادات؛ للأغراض التي حبست من أجلها.
4 - تسهيل الإجراءات النظامية، وتقديم الدعم والتسهيلات؛ من خلال تطوير التشريعات التي تحكم العمل الوقفي، وإعفائه من الضرائب والرسوم.
5 - الوقوف على أصول مشكلات الأوقاف، والعمل على حلها بصورة فعلية. وضابط معرفة المشكلة الوقفية: أن تكون سببًا رئيسًا في انحسار الوقف وتراجعه، أو عائقًا دون نهوضه.
6 - إعادة النظر في فقه الوقف الموروث، والخروج به من إطاره التنظيمي التنظيري إلى الواقع العملي التفعيلي؛ بحيث يتم الانفتاح على العصر انفتاحًا متوازنًا بين الثوابت الأصيلة، والمتغيرات الحضارية، والتعامل مع الأوقاف برؤية جديدة لم تكن موجودة في الماضي، أو لم تكن الحاجة تدعو إليها.
7- ابتكار أنواع جديدة من الوقف؛ سواء من حيث الفكرة، أو التكوين، أو الاستثمار، أو أهداف الواقفين؛ بما يحقق المردود الأفضل للمجتمع وشرائحه المختلفة.
القطاع الوقفي ودوره في تحقيق رؤية المملكة 2030:
رؤية المملكة العربية السعودية 2030: هي رؤية شاملة، أطلقتها المملكة العربية السعودية لتكون خارطة طريق واضحة المعالم، أُعدت لتسير بالمملكة نحو مستقبل مشرق في جميع المجالات التنموية، بما يمكِّن جميع مكونات الدولة -البشرية والمادية- في العشر السنوات المقبلة من السير وفق خطط مدروسة. وهي تقوم على ثلاثة مرتكزات: العمق العربي والإسلامي، قوة استثمارية رائدة، محور ربط القارات الثلاث. وينبثق من هذه المرتكزات ثلاثة محاور، وهي: المجتمع الحيوي، والاقتصاد المزدهر، والوطن الطموح. وهذه المحاور تتكامل وتتسق مع بعضها بعضًا في سبيل تحقيق أهداف الرؤية، والاستفادة من مرتكزاتها.
وقد رسمت الرؤية التوجهات والسياسات العامة للمملكة، والأهداف والالتزامات الخاصة بها؛ لتكون المملكة نموذجًا رائدًا على المستويات كافة. كما اشتملت على عدد من الأهداف الإستراتيجية، والمستهدفات المحددة، والمبادرات اللازمة لتحقيقها بشكل سنوي؛ مع وضع خطط تفصيلية لها، تعتمد على مؤشرات مرحلية لقياس الأداء ومتابعته، والنتائج وأثرها. ويشترك في تحقيق ذلك، والعمل عليه؛ كل من القطاع العام، والخاص، وغير الربحي(3).
ويأتي دور القطاع الوقفي مهمًا في تحقيق رؤية المملكة 2030؛ باعتباره شريكًا في تحقيق أهداف التنمية والتطوير الذي تسعى إليه المملكة، وكونه أحد الدعائم الرئيسة لتوفير مصادر تمويل مناسبة تساند القطاع الحكومي، وتحميه من التقلبات الاقتصادية ومشكلاتها. وهذا يستدعي -بالضرورة- تفعيل هذا القطاع في تحقيق التنمية المستدامة؛ من خلال: التوسع في قطاعه، وبناء الشراكات، وتأهيل وتدريب الكوادر البشرية. وهذا ما تضمنته الرؤية.
كما تهدف الرؤية أيضاً إلى تخفيض معدل البطالة من (11.6 %) إلى (7 %)؛ بتوفير فرص العمل للشباب والخريجين في مجالات غير القطاع الحكومي، والوصول إلى مليون متطوع في القطاع غير الربحي سنوياً، ورفع مساهمة القطاع غير الربحي في إجمالي الناتج المحلي من أقل من (1 %) إلى (5 %)، والوصول بمساهمة القطاع الخاص في إجمالي الناتج المحلي من (40 %) إلى (65 %).
ويمكن للقطاع الوقفي تحقيق رؤية المملكة 2030 في المجال الاقتصادي على النحو التالي:
1 - إعطاء دور أكبر للقطاع الوقفي في الاقتصاد الوطني؛ لرفع الكفاءة الإنتاجية؛ من خلال فعالية التشغيل، ومهارة الإدارة.
2 - وضع خطة إستراتيجية للقطاع الوقفي، تلبي احتياجات المجتمع السعودي؛ من خلال تحديد أساليب التعامل مع المخاطر الموجودة، واستثمار الموارد البشرية والمادية، ووضع خارطة ورؤية مستقبلية لتحقيق التنمية والتطوير؛ بحيث تتضمن أهدافًا قصيرة الأجل، وأخرى طويلة الأمد.
3 - تعميق الشراكة بين القطاعات الثلاثة: الوقفي، والحكومي، والخاص؛ من أجل التنمية المستدامة، وتخفيف الأعباء المالية التي قد تعيق الدولة، وتحسين الخدمات المقدمة، وخلق فرص عمل جديدة.
4 - إنشاء وحدة إعلامية خاصة بالقطاع الوقفي؛ لنشر ثقافته، ومجالاته، وأساليبه، والأدوار التي يقوم بها، وأثره في التنمية المجتمعية.
5- وضع آلية لرصد أعمال القطاع الوقفي، والمراقبة، والتقويم؛ وفق المعايير الدولية.
والله الموفق والمسدد للنهوض بهذا القطاع المهم.. ودمتم في رعاية الله وأمنه،،
... ... ...
الهوامش:
1 - انظر: اقتصادنا: محمد باقر الصدر (ص346)
2 - انظر: دور القطاع الوقفي في تحقيق رؤية المملكة 2030م: (ص48).
3 - انظر: وثيقة رؤية المملكة 2030م: المملكة العربية السعودية (ص15، 16)، الرياض.
** **
- رئيس مجلس الأوقاف بغرفة الخرج